..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    "كدانة" تعلن عن توفر عدد من الوحدات التأجيرية للأسر المنتجة خلال موسم الحج    أجمل من عطر منشم..!    أوبك+ تقرر تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية حتى نهاية 2025    فسح 856 ألف رأس من الماشية وتجهيز المسالخ في مكة    تعزيزاً لمكانتها البارزة وجهودها المميزة.. السعودية تستضيف اجتماع مجلس البحوث العالمي    ماذا نعرف عن الصين؟!    ملاجئ «الأونروا» فارغة    الأولمبي السعودي يستهل مشواره بمواجهة كوريا الجنوبية    الاتحاد بطل.. أخذوه وبعثروه    الأزرق يليق بك يا بونو    القيادة تهنئ الشيخ صباح الخالد بتعيينه ولياً للعهد في الكويت    دياز سادس لاعب عربي يحصد دوري أبطال أوروبا    الصمعاني يرعى حفل تخريج 3000 متدرب ومتدربة من مركز التدريب العدلي    اعتبارًا من اليوم.. بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    هذا ما نحن عليه    الملك يوجه بناءً على ما رفعه ولي العهد بتسمية طريق الأمير بدر بن عبدالمحسن    جامعة نورة تنظم 20 حفل تخريج لطالبات كلياتها ومعاهدها    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    "الأمر بالمعروف" تدشن المركز الميداني التوعوي بمكتبة مكة    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    "تجمع صحي مكة" يجهز 18 مستشفى و126 مركزاً صحياً لخدمة الحجيج    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الشورى: مراجعة شروط الضمان الاجتماعي المطور لصالح الأيتام وبعض الأسر    إقامة المؤتمر الصحفي لبطولة العالم للبلياردو "9كرات" في جدة    أمير منطقة تبوك يعتمد الفائزين بجائزة سموه للمزرعة النموذجية    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    «التخصصي» ينجح في علاج حالة مستعصية من «الورم الأصفر»    إدانة مزور شيكات ب34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    دوريات الأمن بمكة تقبض على وافدَين روّجا سندات هدي غير نظامية    مسبار صيني يهبط على القمر    خلال أسبوع.. «مسام» ينتزع 1,406 ألغام وعبوات ناسفة من الأراضي اليمنية    مجلس الوزراء الكويتي يبايع الشيخ صباح خالد الصباح ولياً للعهد ونائباً لأمير البلاد    الزعيم يتجلى في الجوهرة    قسم خاص للشركات السعودية بمنصة "علي بابا"    المملكة تسجل أقل معدل للعواصف منذ 20 عاماً    تاسي يعود للارتفاع وتراجع سهم أرامكو 2%    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    وصول الطائرة ال51 لإغاثة غزة    كوريا الجنوبية تتوعد بالرد على بالونات القمامة    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    المملكة تحقق أول ميدالية فضية ب"2024 APIO"    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    سعود بن خالد يتفقد مركز استقبال ضيوف الرحمن بوادي الفرع    أمير عسير يؤكد أهمية دور بنك التنمية الاجتماعية لدعم الاستثمار السياحي    ZTE تكشف عن أحدث هواتف nubia وBlade    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد غداً انطلاق بطولة العالم للبلياردو    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    البرامج    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نائب رئيس الوزراء العراقي السابق الزعيم الركن رجل الانتفاضات والانقلابات يعترف . عبدالغني الراوي : قال عبدالسلام عارف عثرت للراوي على قبر وسأدفنه فيه حملت رشاشي ودخلت القصر نهرت الرئيس وأحبطت محاولة عارف عبدالرزاق الأخيرة
نشر في الحياة يوم 10 - 07 - 2003

عاتبني قارئ عراقي بشدة على نشر الملفات العراقية في سلسلة "يتذكر". استنكر ما سمّاه تسليط الضوء على ما فعله عراقي بآخر، فيما كانت البلاد مهددة بالغزو سابقاً، وترزح تحت الاحتلال اليوم. قال انه يتحدث من فيينا. وشدد على وجوب طي كل الصفحات العراقية الداخلية والتفرّغ لمهمة مقارعة الاحتلال مع "ترك الشؤون العراقية الداخلية للعراقيين فهي شأنهم وهم أدرى بها". وذهب القارئ بعيداً في الاوهام متسائلاً اكثر من مرة عن الغرض من هذه الملفات ومطالباً بالرد على سؤاله عبر صفحات "الحياة".
وكان الغريب إصرار المتصل على عدم ذكر اسمه وإصراره في الوقت نفسه على انه يعرف الكثير. رداً على القارئ العزيز واسئلة مشابهة طرحها آخرون في مناسبات مشابهة يهمني ان اوضح الآتي:
قبل ان تنشغل سلسلة "يتذكر" بالوضع العراقي توقفت عند محطات لبنانية وفلسطينية ويمنية وسودانية وجزائرية وغيرها. والغرض من السلسلة اعادة تسليط الضوء على محطات تركت بصماتها على الحاضر خصوصاً ان احداث الماضي القريب في عالمنا العربي تكتب عادة بالحبر الرسمي الصارم الذي كثيراً ما يتلاعب بالحقائق ويطوعها بحيث يحرم الناس من القدرة على معرفة ما حدث، وتالياً القدرة على استخلاص الدروس.
ولم تزعم هذه السلسلة يوماً انها اصطادت الحقيقة برمتها وسجنتها في بضع صفحات. ان ما قامت به هو جمع الروايات ونقلها بأمانة ووضعها امام القارئ لتمكينه من المقارنة بينها وامتحان صحتها.
وكل ما ورد في السلسلة مثبت في شرائط تسجيل او في اوراق سجّلها المتحدثون بخطّهم وتفضلوا بتقديم نسخ عنها. ولا نزعم هنا اننا نشرنا كل ما سمعناه. فقد اختصرنا بعض ما لا يهم القارئ او يفيد. وحذفنا اتهامات تمس كرامة الاشخاص او عائلاتهم او تهدد سلامة المعنيين. وقد فعلنا ذلك التزاماً بقواعد النشر والضوابط المهنية والاخلاقية الصارمة التي لا بد من ان تلتزمها اي مطبوعة محترمة. وحرصنا ايضاً على ارفاق كل حوار بإشارة تؤكد ان الباب مفتوح لأي تصحيح او توضيح. اما اختيار المتحدثين فتفرضه طبيعة المواضيع او التطورات والمسائل المطروحة. وغالباً ما يطلب من المتحدث الكلام عن المحطة التي عاشها ودوره فيها.
والعامل الحاسم في الخيار هو الشعور ان لدى الشخص المعني ما يضيف الى معلومات القارئ او يشبع رغبته في التعرف الى خفايا لم تنشر او نشرت بشكل جزئي او مغاير.
لماذا الملفات العراقية؟ في الصيف الماضي بدا واضحاً ان نظام صدام حسين بات في عين العاصفة وان المطروح ليس فقط مستقبل حكم البعث بل ايضاً مستقبل العراق نفسه. وعندما زرت في الخريف الماضي كردستان العراق تزايد اعتقادي ان من المفيد طرح الموضوع الكردي لانه لا ينتمي فقط الى الماضي. في هذا السياق جاءت حلقات "مسعود بارزاني يتذكر" وكانت سبقتها في الشقيقة "الوسط" حلقات مشابهة مع جلال طالباني وعزيز محمد الامين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي. وأذكر ان مسعود بارزاني الهادئ الحذر قال يومها: "يبدو ان الاميركيين عازمون هذه المرة على اطاحة صدام". وشدد اكثر من مرة على ان اخطر ما يمكن ان يواجهه العراق هو "حصول فراغ" بعد سقوط نظام صدام.
بعدها تكاثر الحديث عن المؤسسة العسكرية العراقية واحتمال قيامها بدور في اطاحة صدام وملء الفراغ بعد سقوطه. ووجدت ان افضل من يمكن ان يحكي قصة الجيش العراقي هو اول ركن نزار الخزرجي رئيس الاركان السابق الذي منعته السلطات الدنمركية من المغادرة. زرته ووافق مشكوراً على التحدث وروى قصة الحرب العراقية الايرانية وما عانته المؤسسة العسكرية بعد غزو الكويت. وحذر الخزرجي ايضاً من نشوء فراغ بعد اسقاط نظام صدام.
وكان لا بد من اطلالة على الوضع العراقي من خلال تجربة حزب البعث نفسه ولو على لسان من غادره وانتقل الى موقع معارض. في هذا السياق جاءت حلقات "صلاح عمر العلي يتذكر" خصوصاً انه كان شريكاً في عودة البعث الى السلطة في 17 تموز يوليو 1968 وكان عضواً في القيادة القطرية. وكان الحوار مع العلي سبباً في لفتي الى الدور الذي لعبه الفريق الركن ابراهيم الداود عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الدفاع السابق. كما كان السبب في بحثي عن نائب رئيس الوزراء السابق الزعيم الركن عبدالغني الراوي. وكان الغرض من كل تلك الروايات الاشارة الى هذا الدوي العميق في التاريخ العراقي الحديث والى المياه المضطربة المتلاطمة الامواج التي جاء منها صدام حسين.
اعود الى القارئ العاتب. هل يكفي ان يجاهر حاكم بعدائه للولايات المتحدة لنغض الطرف عن قصته مع شعبه؟ وهل كان باستطاعة قوات "التحالف" غزو العراق لولا السلوك المتهور لنظامه؟ وهل يمكن اعتبار "المقابر الجماعية" حدثاً مؤسفاً وعابراً لا يجوز الحديث عنه وسط احتدام "ام المعارك" وسلالتها؟
في هذا السياق جاء حديث عبدالغني الراوي. وأسجل هنا شجاعته في الكشف والاعتراف. من دون ان ننسى صعوبات وغوامض رافقت الحديث تفضّل زميلنا ميسر الشمري مشكوراً بتسهيلها وجلائها.
وهنا نص الحلقة الاخيرة:
لم تتفق مع أحد من الذين حكموا العراق؟
- انا كانت لديّ مبادئ واضحة. كلما تعارضت هذه المبادئ مع سياسة حاكم كنت اجد نفسي في خلاف معه. اعتبروني صعباً لانه لا يمكن شرائي لا بالمنصب ولا بالمال. وبصراحة اقول انني عاديت كل التيارات الفكرية المضادة للاسلام او التي لا تتفق معه. خذ مثلاً عبدالكريم قاسم. أطاح عبدالسلام عارف ونصّب نفسه ديكتاتوراً. صار الزعيم الاوحد وراح يدير البلاد على هواه. استعان بالشيوعيين في تثبيت مركزه ما مكّنهم من نشر مبادئهم. هل كان يعقل ان اقبل بنهج من هذا النوع. لم نعمل سنوات طويلة من اجل الثورة كي ينتهي الامر بالبلد في عهدة ديكتاتور يتعاون مع الشيوعيين. عقيدة الشيوعيين برمتها مرفوضة ثم ان ولاءهم الحقيقي هو لأسيادهم. تمكينهم من تعزيز مواقفهم يشكل جريمة. لهذا لم أتردد في اصدار الامر بإعدام قاسم ورفيقه. تم التنفيذ بحضوري وبأمر مني.
ولم تتفق مع عبدالسلام عارف؟
- لم أوافقه على سياسته المنادية بالقومية والتعاون مع اليساريين.
لكنك دخلت الحكومة في عهده!
- استدرجني اليها لإضعافي والتخلص مني.
كيف كان ذلك؟
- في خريف 1963 سافرت الى بريطانيا للعلاج من انزلاق غضروفي في العمود الفقري. اثناء ذلك استعان عبدالسلام عارف بالناصريين لطرد البعثيين الذين جاؤوا به. لم يكن لعارف دور في الاعداد لاسقاط قاسم في 14 رمضان 1963 الموافق 8 شباط فبراير. كان قيد الاقامة الجبرية في منزله ويخضع للرقابة. وحتى حين استدعي الى الاذاعة بدا واضحاً ان حازم جواد هو المسؤول عنه.
بعد عودتي الى العراق جرى تنسيبي الى وزارة الزراعة في حيلة قذرة من عبدالسلام عارف. كان يعرف موقفي وصلابتي وانني لا اتردد في التحرك ضد الخطأ. حرّك نخوتي معتبراً قبولي وزارة الزراعة واجباً عليّ. حجّته ان العراق بلد زراعي اصلاً لكنه بات يستورد كل المواد الغذائية، وقال انني سأحتفظ بموقعي في الجيش كقائد لفرقة مدرعة. وقال لي ان وزارة الزراعة بحاجة الى رجل شجاع وقوي ونظيف. ولإقناعي بفرص النجاح قال خذ كل صلاحياتي المتعلقة بوزارتك ومعها كل صلاحيات رئيس الوزراء طاهر يحيى.
الخلاف مع عبدالسلام عارف
صدّقت وقبلت؟
- نعم. قلت في نفسي ربما استطيع ان أقدم شيئاً. تكشّف لاحقاً ان عبدالسلام كان يضمر غير ما يعلن. كان يريد إبعادي من الجيش الى الوزارة اولاً ثم إبعادي الى خارج العراق كسفير ثانياً.
لم تدم رحلة التعاون طويلاً؟
- في 29/3/1964 ولم يكن مضى علي كوزير للزراعة الا بضعة ايام وقبل اصدار الدستور الموقت وجّهت كتاباً الى مجلس الوزراء مع صور عنه الى سكرتير رئيس الجمهورية والوزارات، اعترض فيه على فقرات في مشروع الدستور تتحدث عن الاشتراكية وتعارض اخرى مع الاسلام في موضوع الاحوال الشخصية. ربما هنا تكمن مشكلتي. لا استطيع الصمت ولا اقبل باسلوب الانسحاب وترك الامور تمر من دون ان اسجل موقفي. بعد ستة اشهر فقط اصدر رئيس الجمهورية مرسوماً بتعديل وزاري نص على إقالة وزير الداخلية رشيد مصلح، أعدمه البعثيون في كانون الثاني يناير 1970، وإقالتي من وزارة الزراعة وتعييني سفيراً في وزارة الخارجية. ثم تم تعييني سفيراً في فيينا. كان واضحاً ان عبدالسلام عارف يريد التخلص مني بإبعادي عن الجيش والبلاد معاً. على مدى عام رفضت الالتحاق بالمركز الذي اختاروه لي. رفضت الدوام في وزارة الخارجية وامتنعت عن حضور اي حفلة رسمية او تلك التي تقيمها السفارات الاجنبية في بغداد وكانوا يرسلون راتبي الى بيتي.
ولكن لماذا اتخذ عبدالسلام هذا الموقف؟
- لأن عبدالسلام يعرفني ويعرف عني. حين كانوا يخططون للثورة كنت أخطط للثورة وكدت أقودها قبلهم. ثم انني لست من الذين يسهل تخويفهم او تطويعهم. وربما لعب الوشاة دوراً في تحريضه. ولعله على عادة الحكّام سعى الى ابعاد الاقوياء. الحاكم يريد ان يكون القوي الوحيد ودائماً هناك من يحرضه ويثير قلقه من اصحاب المواقف والرصيد الشخصي خصوصاً في الجيش.
العلاقة مع عبدالرحمن عارف
ولم تكن رحلتك مريحة مع شقيقه الرئيس عبدالرحمن عارف؟
بعد مقتل عبدالسلام عارف ارتأت الجهات التي شاركت في قتله أن يكون شقيقه عبدالرحمن رئيساً. ارتأت أن يكون خليفته لعبة تافهة جاهلاً وجباناً لا يحل ولا يربط. هكذا أصبح عبدالرحمن عارف رئيساً للجمهورية وقد دفع العراق ثمن ضعفه وما زال يدفع حتى اليوم.
اعتقد انك تفرط في القسوة على الرئيس السابق؟
ما أقوله هو رأيي. ألم أقل لك ان مشكلتي تكمن في جرأتي وقدرتي على تسمية الأشياء بأسمائها. لا يستطيع رجل ضعيف أن يقود بلداً مثل العراق. الرئيس الضعيف يسقط في أيدي المحيطين به فيحكمون من خلاله. تصور انه سقط على أيدي أقرب الناس اليه. على يد من كان يعتبرهم ضمانته وهم ابراهيم الداود آمر الحرس الجمهوري وعبدالرزاق النايف معاون مدير الاستخبارات العسكرية. لولا تعاون الداود لما نجح البعثيون في دخول القصر. ولم يتأخر البعثيون أيضاً في الغدر بالداود والنايف اللذين كان تعاونهما مع احمد حسن البكر ورفاقه جزءاً من لعبة أكبر منهما.
هذا يعني اعترافك بأن الداود والنايف لعبا دوراً حاسماً في 17 تموز يوليو 1968؟
نعم. وضع عارف مصيره في أيديهما. ورئيس الجمهورية يراهن في النهاية على ولاء الحرس الجمهوري الذي يضم آلاف العسكريين. لو قاتل الحرس الجمهوري لكان الوضع مختلفاً.
احباط انقلاب عبدالرزاق
سأعطيك مثالاً على شخصية عبدالرحمن عارف. في صيف 1966 كنت في منزلي وإذ بطائرات تقصف القصر الجمهوري. ذهبت بسيارتي وملابسي المدنية حاملاً غدارتي رشاشي الستيرلنك. وصلت الى القصر الجمهوري قبل وصول عبدالرحمن الذي لم أكن التقيته منذ غياب أخيه عبدالسلام. كانت الحركة بقيادة العقيد الركن الطيار عارف عبدالرزاق. سيطر الثوار الناصريون على معظم دبابات القصر الجمهوري ودبابات بغداد فضلاً عن الاذاعة والمطارات في بغداد وكركوك والموصل والحبانية. لم تتجاوب الوحدات العسكرية مع أوامر مواجهتهم. من غرفة رئيس الجمهورية الذي كان وحيداً الى جانبي أدرت المعركة ضد الانقلابيين. كان الوضع صعباً. كان عبدالرحمن عارف يبكي وكنت أصرخ به كما أصرخ بطفل خائف. حاول ثلاث مرات الاستسلام للانقلابيين لكنني منعته. لقد كنت السبب في احباط المحاولة الانقلابية. تمكنت من انهاء الفتنة ثم القاء القبض عليهم في الفجر التالي كما كنت السبب في انقاذ حياتهم من الموت المحقق.
في هذه المرحلة تزايد الحديث لدى العراقيين عن احتمال تكليفي بتشكيل الحكومة وإقالة حكومة البزاز. وهذا الأمر لا يوافق أعداء الاسلام والمسلمين وأعداء العراق والعراقيين. اتحدت جهود هؤلاء للتأثير على عبدالرحمن عارف وتخويفه مني ولو على شكل نصيحة. قالوا له "عبدالغني تغدى بالناصريين وسيتعشى بك". ولهذا جرى تكليف ناجي طالب بتشكيل الوزارة التي كانت من أضعف الحكومات التي عرفها العراق في تاريخه الحديث فقد ولدت ميتة هذا مع أن الثوار الناصريين كان في تخطيطهم تكليف ناجي طالب بتشكيل الحكومة لأنه من رؤوس الناصريين في العراق. وهكذا ما فشل به الثوار الناصريون حصلوا عليه مجاناً هبة من عبدالرحمن عارف وكترضية لما اقترفوه. وبعد أن عجزت وزارة ناجي طالب عن العمل وبعد شهور طويلة قرر عبدالرحمن عارف إقالة الحكومة وتكليفي بتشكيلها".
قصة تشكيل الحكومة
وكتب الراوي في مفكرته في 1979 قصة عدم تكليفه تشكيل الحكومة قال:
"كان من عادتي زيارة رئيس الجمهورية مساء كل أربعاء لمدة تقارب الساعة. وذات اربعاء من ربيع 1967 اخبرني انه قرر إقالة حكومة ناجي طالب وتكليفي تشكيل الحكومة وان المراسيم ستصدر السبت ومعها التقاط الصورة التذكارية. طلب مني تقديم لائحة باسماء الوزراء للاتفاق عليها معه فأبلغته انني أعددت قائمة بهذه الاسماء. وقلت له انني اقترحت أربعة اسماء لبعض الحقائب وأكثر لحقائب أخرى ليكون باب الاختيار واسعاً.
وشرحت ان الاسماء التي اقترحتها غير حزبية ولأشخاص لم يشاركوا في الثورة لكنهم من ذوي الكفاءة ومن دون انتماء حزبي. سألني ان كنت أخذت موافقتهم فأجبته انهم لا يعلمون لأنني أنا أيضاً لا أعلم على من سيقع الخيار من بين مجموعة اسماء مقترحة لحقيبة واحدة. خاف ان يعتذروا ويصطدم تشكيل الحكومة بصعوبات كما حصل لوزارة ناجي طالب فأجبته: بعد أن نتفق على الاسماء سأخابر كل واحد منهم من هذه الغرفة لأخبره انني كلفت تشكيل الوزارة واخترته للحقيبة الفلانية ثم اعطيك سماعة الهاتف لتسمع جوابه مباشرة.
سألته ان كان أحد غيري يعلم بقراره تكليفي تشكيل الحكومة فقال ان ناجي طالب وحده يعرف. قلت اذاً سيعرف الجميع لأن طالب كما تعلم هو من رؤوس الناصريين وسيخبر جماعته الملغومين بالبعثيين والشيوعيين وغيرهم. اقترحت على الرئيس اعلان إقالة الحكومة وتكليفي فوراً على أن يبث النبأ في نشرة العاشرة مساء ولا مانع من الاتصال بالمرشحين لدخول الحكومة ليلاً على أن يتم التشكيل صباحاً لنقطع الطريق على أية ردة فعل من قبل أولئك الذين يتسلمون الأوامر من خارج الحدود. فأجابني انه وعد ناجي طالب بأن المراسيم ستصدر صباح السبت وأعرب عن اعتقاده ان لا مشكلة. قلت له عليك اذاً ان تتوقع ان تجيء اليك أفواج بعد أفواج باسم الناصحين لك والمحبين لك وللعراق. سينصحونك بعدم تكليفي تشكيل الحكومة لأنهم بذلك انما يدافعون عن أنفسهم ولذلك أتوقع ان تعتذر لي صباح السبت لرجوعك عن رغبتك في تكليفي. فقال: لا، لا، لن أتراجع ولن أبدل رأيي هذه المرة.
عندما بكى عبدالرحمن
صباح السبت دخلت على عبدالرحمن عارف فخجل أن يحدق بي. اخبرني انه قرر تشكيل حكومة برئاسته لأن المصلحة تقتضي ذلك. وأمضى ما يقارب ستة أسابيع في التشاور مع الناصريين، دون علمي، لأنه يخاف منهم. وذات صباح ارسل ورائي فتوجهت الى القصر الجمهوري وإذ بي أرى موظفي الاذاعة والتلفزيون وبعض الشخصيات من قياديي الناصريين في القاعة الكبرى. دخلت غرفة رئيس الجمهورية فأبلغني ان الحكومة ستكون برئاسته وطلب مني أن أكون نائباً لرئيس الوزراء مع ثلاثة آخرين لتمثيل السنة والشيعة والأكراد والناصريين. على مدى ساعتين راح يداورني ويحاورني ولما رأى استنكافي عن المشاركة واستهانتي بهذه التشكيلة الوزارية وانني لا أريد أن أنجس ملابسي ونفسي بالجلوس معهم انخرط في البكاء. قال لي: "اتتركني يا عبدالغني لوحدي مع هؤلاء؟". أجبته: "ولماذا تجلبهم وتجلب الأذية لك وللبلد". قال: "أعطني مهلة وبعدها تتسلم الواجب". أدينا معاً صلاة الظهر فيما انتظر الآخرون في القاعة. وهكذا أصبحت نائباً لرئيس الوزراء ....
بعد فترة شهرين وكان يتفق من وراء ظهري مع طاهر يحيى تخلى عن رئاسة الوزارة وطلب من طاهر يحيى تشكيلها. كان الناصريون في العراق موزعين على ست مجموعات من اليسار المتطرف الى اليمين الاسلامي، لكل مجموعة رئيسها، وكل هذه المجموعات خاضعة للرئيس الأعلى وهو طاهر يحيى وذلك بأمر من جمال عبدالناصر نفسه. ووزارة يحيى هي التي أطاحها انقلاب البعثيين العراقيين الذين طردوا عبدالرحمن عارف ونصبوا احمد حسن البكر بدلاً منه.
لماذا رفض عبدالرحمن عارف تكليفك في النهاية؟
اعتقد ان السبب واضح. لم يكن جريئاً أو صاحب قرار. كان يشاور ويشاور ويرضخ للضغوط. شقيقه عبدالسلام كان شجاعاً لكنه اهتم بابعاد الأقوياء. عندما استدرجني الى قبول منصب وزير الزراعة قال لمقربين منه: "عثرت لعبدالغني الراوي على قبر وسأدفنه فيه".
كيف تفسر ان عبدالرحمن عارف رضخ فوراً لمطالبته بالتنحي ومغادرة البلاد؟
شرحت لك أوضاع الرجل. يضاف الى ذلك ان المفاجأة جاءته ممن كان يثق بولائهم وتحديداً من ابراهيم الداود آمر الحرس الجمهوري وعبدالرزاق معاون مدير الاستخبارات العسكرية. اذا تخلى الحرس الجمهوري عن الرئيس ماذا يبقى له خصوصاً حين لا تكون شخصيته صدامية. لو قرر الداود مواجهة الانقلابيين لاختلف الوضع تماماً.
يقال انك كنت عدواً للشيوعيين وانك قتلت العديد منهم فهل أنت نادم؟
نعم أنا عدو الشيوعيين ولم أكن بعثياً في أي يوم. أنا عربي مسلم. حصلت على فتاوى من رجال الدين الشيعة والسنة تجيز قتل الشيوعيين. الفتوى التي حصلت عليها من العلماء الشيعة تعتبرهم مرتدين وجزاء المرتد القتل. لست نادماً على ما فعلته بهم.
هل تنوي العودة الى العراق؟
إن شاء الله.
كانت الاجهزة الاميركية تواكب تحضيراتكم لمحاولة اطاحة نظام البكر صدام، هل تعاونت مع الاميركيين؟
انا شخصياً لم اتعاون معهم. بعض المشاركين كانوا على علاقة بهم. ثم هناك الاجهزة الايرانية وعلاقاتها مع الاجهزة الاميركية معروفة تماماً. لم ينسق الاميركيون معي ولم اتلق اي شيء منهم.
لكنك تعاونت مع ايران؟
شرحت لك الامر. التفت الى الخريطة فلم اعثر على أي دولة يمكن ان تعيننا على اطاحة نظام البعث. وحدها ايران كانت مستعدة. وايران بلد مسلم. انا اعتقد ان الكارثة بدأت حين قاتل المسلم اخاه المسلم. حين قاتل العربي التركي وحين قاتل العراقي الايراني لاحقاً. لو نجحنا في إبعاد النظام البعثي باكراً لوفرنا على العراق ما عاشه من مآس وكوارث.
بدا لي من حوارنا انك لجأت الى ما يشبه تصفية الحسابات في حديثك عمن تعاقبوا على مركز القرار في العراق؟
ليست تصفية حسابات. اننا نسجل ما حدث. وحين نفعل ذلك يجب ان نتصف بالامانة.
قسوت على عبدالرحمن عارف!
- قلت ما حصل معي. هل يحق لرئيس جمهورية ان يسارع الى التفكير في الاستسلام للانقلابيين لضمان سلامته الشخصية، كما كاد يحصل اثناء محاولة الناصريين؟ ثم تكرر الامر نفسه معه في 1968.
هل يزعجك القول ان عبدالسلام عارف كان شجاعاً؟
لا. كان عبدالسلام شجاعاً. وكان هناك من يحاول اجراء مفاضلة بيننا. كان برتبة عقيد ركن وكنت في الرتبة نفسها. طبعاً هو اقدم مني. لكن الاشجع هو من حاول القيام بالثورة اولا وان لم يحالفه الحظ. تاريخي قبل 1958 اغنى من تاريخه.
لو تكررت الظروف السابقة هل تتخذ المواقف نفسها؟
نعم.
ألا تشعر بأي ندم؟
اشعر انني كنت وفياً لمبادئي.
كتبت مذكراتك في 1979، هل راودتك رغبة في التصحيح او التنقيح او التراجع؟
لا. كتبتها في ضوء ما عشته. لم اكذب في حياتي. ربما تحاشيت الرد على سؤال احيانا لكنني لم اكذب.
لماذا بدوت منزعجاً في بعض مراحل الحوار؟
لم تعجبني طريقتك في طرح الاسئلة. أحاول ان اقدم لك الصورة كاملة لكنك تصر على مقاطعتي، وهو ما يشتت ذهني. انك شديد الاهتمام بالتفاصيل في حين ان الأهم هو الالتفات الى جذور المسائل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.