نائب وزير الخارجية يلتقي نائب وزير خارجية أذربيجان    «التجارة» ترصد 67 مخالفة يومياً في الأسواق    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    سعودية من «التلعثم» إلى الأفضل في مسابقة آبل العالمية    «الاحتفال الاستفزازي»    فصول ما فيها أحد!    أحدهما انضم للقاعدة والآخر ارتكب أفعالاً مجرمة.. القتل لإرهابيين خانا الوطن    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    الجوازات تبدأ إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة إلكترونيًا للمقيمين العاملين    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    شَرَف المتسترين في خطر !    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الرياض يتعادل إيجابياً مع الفتح في دوري روشن    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    كيفية «حلب» الحبيب !    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    اعتصامات الطلاب الغربيين فرصة لن تعوّض    من المريض إلى المراجع    رحلة نجاح مستمرة    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    الحزم يتعادل سلبياً مع الأخدود في دوري روشن    « أنت مخلوع »..!    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    الذهب يستقر برغم توقعات ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية    محافظ بلقرن يرعى اختتام فعاليات مبادرة أجاويد2    تألق سانشو لم يفاجيء مدرب دورتموند أمام سان جيرمان    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    المملكة: الاستخدام المفرط ل"الفيتو" فاقم الكارثة بفلسطين    "شرح الوصية الصغرى لابن تيمية".. دورة علمية تنفذها إسلامية جازان في المسارحة والحُرّث وجزر فرسان    منتدى المياه يوصي بزيادة الاستثمار في السدود    للتعريف بالمعيار الوطني للتطوع المدرسي بتعليم عسير    هاكاثون "هندس" يطرح حلولاً للمشي اثناء النوم وجهاز مساعد يفصل الإشارات القلبية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "التحصينات"    السعودية تدعو لتوحيد الجهود العربية لمواجهة التحديات البيئية التي تمر بها المنطقة والعالم    "التخصصي" العلامة التجارية الصحية الأعلى قيمة في السعودية والشرق الأوسط    انعقاد أعمال المنتدى العالمي السادس للحوار بين الثقافات والمؤتمر البرلماني المصاحب في أذربيجان    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    ما أصبر هؤلاء    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    هكذا تكون التربية    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دليل القارئ الذكي إلى كتابة المذكرات من دون عناء . وقائع غريبة لاختفاء الوقائع ... وتلعثم في الكلام الديموقراطي 1 من 2
نشر في الحياة يوم 08 - 11 - 1999

أيجوز لنا اشتقاق صفة "حديث الديمقراطية" قياساً على تعبير "حديث النعمة"؟ خطر هذا السؤال في بالي وأنا أقرأ مقدمة الزميل علي كريم لمذكرات المرحوم طالب شبيب. إذ غالباً ما يقود الإكثار من الحديث عن "الحيادية" في الرواية التاريخية، وضرورة "الإقلال من التحليل في المتن والهوامش، لنترك للقارئ أن يحلل ويركّب بعيدا عن ميولنا وعواطفنا"، إلى العكس تماماً. وهذا ما حدث بالفعل لسوء الحظ. فبعد أن انتهيت من قراءة المذكرات، وهو الجانب الذي يهم القارئ لا تحليلات الزميل علي كريم، خطر ببالي حساب عدد الصفحات التي ابتلعتها إضافات علي كريم، الذي وعدنا بالإقلال، فوجدت أنها تزيد على مئتي صفحة بالحرف الناعم من مجموع 402 صفحة هي متن الكتاب! وليت الأمر اقتصر على هذا. فإضافات علي كريم، التي يفترض فيها التوضيح والتدقيق، مليئة بالأخطاء التاريخية والوقائعية، واختياره للإحداث مبني على الصدفة لا على البحث المنهجي. يصدف أن ألتقي بصديق يروي حادثة ما ذات صلة بالموضوع، أو أن أقع على قصاصة، فأسارع إلى حشوها في الكتاب، بغض النظر عن أهميتها أو دلالتها. أما ترك القارئ ليحكم فيتبين من العناوين والتعابير شديدة الحيادية التي يستخدمها الكاتب. إليكم بعض الأمثلة: "الجرأة التي أظهرها شباب البعث… أوضحت بصدق تمسكهم بعقيدتهم"، "فقد كانوا فئة قليلة لكنها متماسكة وبإمكانها التغلب على كتل بشرية فاقدة للاتجاه وبقيادة مرتبكة" ص. 32، "التهيئة لثورة رمضان: صوت صادق ويد قوية" عنوان فصل، ص. 45، "ولو جلس بعثيو وشيوعيو تلك المرحلة لشكوا لبعضهم قلة الخبرة، ولوجدوا أن عداوتهم لم تكن حقيقية بل أن فهماً مغلوطاً دفع كل طرف إلى التصادم والبحث عن حلفاء من خارج نسيجه، ففوجئوا بعد حين بأن رجالاً ليسوا على شاكلتهم ولا يشاطرونهم مبادئهم يعششون في صفوفهم" 190.
المقتطف الأخير ذو مغزى خاص لفهم الرؤية النخبوية للبعثيحتى حين يلبس القميص الديموقراطي: إنه العارف بالنوايا، الذي لا يحتاج إلى الوقائع للبرهنة على ما يعتقده صحيحاً أو خاطئاً. ثمة خطأ عرضي وقع فانحرف الأتباع عن "الجوهر" والفكر الإيماني يرى على الدوام جوهراً جيداً أو سيئاً للظواهر ثم يبحث عمّن انحرف عن الجوهر الحق الذي يعرفه هو دون غيره.
لندع الشرّاح جانباً ونتساءل عن أصحاب المذكرات أنفسهم، كيف يرون الوقائع، وكيف يفسرونها. يعيب شبيب على الفكيكي خروجه عن الخط البعثي ويسخر من عنوان مذكرات الأخير، فيتحدث عن كتلته التي ضمت حازم جواد بالمقارنة مع مجموعة علي صالح السعدي، الذي كان الحاكم الفعلي للعراق إثر انقلاب 1963:
"وشئ آخر تميزنا به، فقد التزمنا أنا وحازم… بعدم الانتقال إلى تنظيم آخر أو تأسيس حزب جديد، فبقينا مخلصين للبعث ولم نزل. ولم ننظر للبعث على أنه أوكار للهزيمة وأثبتت الحياة صحة التيار المعتدل فيه وما زال الشارع العربي والمثقف العربي يتأثر بإطروحاته في الوحدة والكرامة. في حين قام علي وهاني وغيرهما بتأسيس حزب العمال الثوري بعد تركهم الحزب بأيام." ص. 364
إذ تقرأ عبارات كهذه وفيما بعد ،في مذكرات الدكتور عجينه ص. 267 أسئلة تتضمن الجواب بالإيجاب من نوع: "هل إني على حق؟"، لا تملك نفسك من التعجب: يا لهذه الحياة، كم تؤكد صحة كل الأطروحات، وكل المواقف. كلهم على حق. كل المواقف مفهومة ومبررة، وما عليهم سوى شرحها للقارئ الجاهل ليتبين جهله ويبرئنا. وهكذا تغدو عملية مراجعة النفس والتاريخ إعادة التبريرات الرسمية نفسها، مع فارق إننا نعيش في زمن الديموقراطية فعلى القارئ، لا الكاتب، أن يعيد النظر في جموده وعدم تقبله لآرائنا.
يختلفون ويتصادمون، ويتركون أحزابهم، وينتقلون إلى حركات تعد العراقي بالديموقراطية والتعددية، ويكتبون مذكراتهم بعد ما يزيد على ربع القرن من معايشة آخرين من خارج غيتو الحزب، ويسمعون آراء شتّى بما فيها آراء الخصوم. فكيف يقوّمون الحدث بعد كل هذا الانقلاب في حياة العراقيين منذ بدأت الثورات القومية تصحح الواحدة الأخرى، وتجزّ الرقاب معلنة بداية التاريخ الحقيقي، والعهد الجديد؟
في أكثر من موضع يؤكد السيد شبيب بدون وثيقة أو قرينة على إن البعثيين تربوا على أن الانقلابات أحداث طارئة يتبعها حتماً حكم برلماني تعددي. وتبحث عبثا في دستور الحزب أو مقررات مؤتمراته أو تجاربه الملموسة في الحكم فلا تجد إلا ما يؤكد العكس. ومع هذا تمضي مع المذكرات، لتكتشف إن الانحراف عن الخط البرلماني مرة أخرى الجوهر الحق، يعود إلى فرد شرير اسمه ميشيل عفلق! وهنا يتفق البعثيان المختلفان، فيضيف الفكيكي ص 319 "ولئن سمح عفلق بسبب الصراع مع الزعيم المصري بتبني بعض الأفكار الديموقراطية وتوجهات في التحويل الاشتراكي ومفاهيم عن الوحدة، فإنه سرعان ما تنكر لذلك بعد تسلم السلطة في بلدين.". لا أظن أن أحدا سيدفع التهمة عن القائد المؤسس، الذي عرف عنه الافتتان بالقوة والفكر الانقلابي. ولكن، أي سذاجة في القول أن شخص عفلق، لا الاتجاه العام في داخل الحزب وعقلية كادره ، هو السبب وراء ممارسة وسمت تاريخ الحزب كله، سواء من بقي مع عفلق أو من انشق عليه. وكيف استطاع الرفاق مخالفة عفلق في كل المواقف بمن فيهم الجناح العراقي والانشقاق عليه ،لكنهم ظلوا ملتزمين بتعاليمه في هذا الجانب بالذات؟
ولكن كيف تتجلى ديموقراطية المنتقدين لعفلق، أي الفكيكي وشبيب؟ ليس ثمة أفضل من تحليلهما لتجربة 8 شباط نفسها ورؤيتهما لأسباب انهيارها. هنا أيضاً يتفق الاثنان بدرجة مذهلة. هناك جرائم وأخطاء كبرى حدثت، لكن حزب البعث برئ منها. من المتهم إذن؟ شركاء البعث في الحكم: القوميون والضباط، فضلاً عن غياب المركزية والوحدة داخل الحزب. ماذا يعني ذلك عمليا؟ ببساطة شديدة: إن ديكتاتورية البعث الدموية لم تكن ديكتاتورية بما فيه الكفاية.تلك هي رؤى من يعدون العراقيين بالديموقراطية اليوم، وذلك هو ما توصلوا إليه بعد ثلاثة عقود من سقوط تجربتهم. بالنسبة للفكيكي وشبيب، يتحمل رشيد مصلح، الحاكم العسكري العام الذي ظهر فيما بعد عميلا للمخابرات المركزية الأميركية، وصالح مهدي عماش الذي تتكرر التلميحات إلى عمالته في الكتابين المسؤولية الأولى عن الجرائم المرتكبة وبخاصة المذابح ضد الشيوعيين.
ما يذهل حقاً ليس تطابق تحليلي الفكيكي وشبيب لتجربة 8 شباط، بل عدم انتباههما إلى أنهما، وهما من قادة المعارضة العراقية للنظام الحالي حتى وفاتهما، يكرران حرفياً تقييم صدام حسين لأسباب فشل "عروس الثورات"، والدروس المستخلصة لحماية تجربة العهد البعثي الثاني منذ 1968. والسؤال الطبيعي عند ذاك: ما هو مأخذهما على سلطة 17 تموز يوليو؟ لقد وحدت القيادة الحزبية بالدم، وأخرست صوت أقرب الحلفاء، و"لم تسمح لأحد بأن يركب معها على الفرس ليمد يده إلى الخرج" على حد تعبير صدام حسين عام 1970. بل أن صدام حسين هو الذي اعتقل رشيد مصلح وأخرجه على شاشات التلفزيون لكي "يعترف" بدوره في المجازر وبراءة البعث منها. وكل ذلك بالطبع، بدفع المخابرات المركزية الأميركية التي اعترف مصلح بعمالته لها.
لا ينتبه الكاتبان، وهما يأسفان لأن القيادة القطرية لم تنفرد بالحكم، إلى التناقضات التي يقعان فيها، دعك عن تناقضها مع ميولهما الديموقراطية والمعارضة التي لم يفصحا عنها إلا بعد حرب الخليج. فالفكيكي يعترف أن المجلس القومي الاستثنائي للحزب المنعقد في أيار مايو 1963 أظهر "جلياً عجز الحزب وقيادته القومية وقياداته القطرية عن إدارة السلطة بمفرده" ص 304. أما شبيب، الذي يؤكد أن البعثيين تربوا على احترام النظام البرلماني، فيفسّر حقده ورفاقه على الضباط بخوفه على الشرعية التي هي النظام الانقلابي لا غير: "ولم يكن حقدنا على عماش وغيره بسبب التنافس السياسي. بل لإدراكنا التام بأنهم سيتسببون في إخراجنا وإفراغ البلاد من الشرعية السياسية" ص.332.
هنا أيضاً، وفي المواضع الرئيسة المهمة الأخرى، يصعب على القارئ أن يتبين لماذا يعارض هؤلاء السادة صدام حسين ونظامه. المنطق نفسه يتكرر عن إرادة الحزب الحيوي الممتلئ نقاء وآمالاً ثورية، وعن الرغبة في الحياة السلمية لولا الخصوم، خصوم الداخل الذين هم حلفاء البعث في السلطة، وخصوم الخارج من أكراد وشيوعيين وليبراليين، وفيما بينهما القوميون الناصريون.
المجازر؟ نعم حصلت، لكن البعث ليس مسؤولاً عنها. ثمة على الدوام الضباط الذين تآمروا على السلطة، فخطفوا شيوعيين وعذبوهم حتى الموت، في حين أن البعثيين أرادوا الحوار والتعاون. بل ان الفكيكي يذهب إلى حد الزعم بوجود أشرطة مسجلة عن رغبة سكرتير الحزب الشيوعي بالحوار مخزونة في القصر الجمهوري.ويتساءل القارئ: كيف لم تستثمر ماكنة صدام حسين الدعائية البارعة وجود هذا الشريط لكي تحط من معنويات الشيوعيين لو كان لهذا الشريط وجود حقا. المشكلة هنا تكمن في أن المجازر تمت على يد الحرس القومي، وهو الميليشيا الحزبية البعثية، فكيف تتم تبرئة حزب البعث منها ؟
يتبرع نص لا ندري إن كان لعلي كريم أم لطالب شبيب صاحب المذكرات ص 165 بإعلامنا عن كيفية تشكيل هذا الجهاز الذي تحول إلى ماكنة رعب للعراقيين:
"حقق الحرس القومي في الأيام الأولى للثورة مكاسب كبيرة على حساب مؤسسات الدولة الشرعية، وتمكن بسرعة من ابتلاع جميع منظمات الحزب المحلية وأخذ دورها وحل محلها تدريجياً، ولا يستثنى من ذلك غير التنظيم المرتبط بالمكتب العسكري للبعث. وقد انتقل البعثيون إلى مقرات الحرس وتواجدوا فيها. وصار كل بعثي تقريباً حارساً قومياً، رغم أن قانون تأسيسه لم يشترط على كل حارس قومي أن يكون بعثياً".
ما المهمات الموكلة إلى الحرس القومي؟
"أردنا للحرس القومي أن يكون عونا لحفظ الأمن الداخلي ؟، لأن جهاز الشرطة فاسد ولا يعتمد عليه، ولم نرغب في أن نزج بالجيش في مهمات الأمن الداخلي التي ستشوه سمعته وتبعده عن وظيفته الأساسية وهي الدفاع عن أرض الوطن ضد أي عدوان خارجي محتمل ، وتأدية دوره الموعود في مهمات التحرير القومي" !.
المتحدث هنا هو طالب شبيب لا رئيس الدولة السويسرية، وزير خارجية الدولة وعضو القيادة القطرية للحزب الذي اعتمد الجيش أداة للاستيلاء على السلطة، وزج بالجيش في الحروب الداخلية ضد الشعب الكردي. والواقع أن مذكرات الفكيكي وشبيب معاً تشتركان في "تشويه سمعة الجيش"، إن كان لهذا التعبير معنى محدداً. فالخوف من الجيش واحتمال انقلابه على "الشرعية" السياسية، واتهام ضباطه بالفساد والرشوة/ كلها تفصح بجلاء قاطع عن الأهداف المرسومة للحرس القومي: أداة إرهاب لا للسكان المدنيين فحسب، بل للجيش أيضا، أي أن يلعب دور الرادع لاحتمال انقلاب عسكري قد يقوم به الجيش على سلطة البعث. والواقع أن المرء لا يحتاج إلى الكثير من التكهن للتعرف على هذه الحقيقة. إذ بين الحين والآخر تفلت عبارات من النوع التالي من بين شفتي السيد شبيب:
"ومن أجل جعله ]الحرس القومي[ قادرا على الوقوف بوجه الجيش، اقترح محسن الشيخ راضي برنامجاً لتدريب أعضائه على استخدام الدبابات، وتم ذلك وتخرجت دفعات قتالية كثيرة". ص 166
ولكن، إذا كان الحرس القومي قد وضع في مواجهة الجيش منذ البداية، فلا بد من طريقة يستطيع فيها القائدان البعثيان إلقاء اللوم في جرائم الحرس القومي على عاتق الجيش، لا على قيادته الحزبية البعثية. وهنا ليس أسهل من إلقاء اللوم على اللجان التحقيقية للحرس القومي، ذلك أن أعضاءها، أي الجلادين الممارسين فعلا لعمليات التعذيب اما لقوا حتفهم ناظم كزار، أو باتوا في معسكر الخصوم صدام حسين. هل من شك في أن هؤلاء مارسوا التعذيب الجسدي فعلاً؟ على الإطلاق! لكن هؤلاء "الأشخاص المعوجين"، على حد تعبير شبيب الموحي بأنهم لا يسيرون على الصراط البعثي المستقيم، لم يمارسوا نشاطهم كجلادين من دون قائد حزبي، كما لم يمارسوا نشاطهم لوحدهم، وهو ما يشير إليه الفكيكي وشبيب بالفعل، مكتفين بتعابير من نوع "وأسماء أخرى معروفة"، أو "وغيرهم". لكن الديموقراطية والشفافية لا تتمثلان في إدانة الأموات أو من نختلف معهم فقط، بل في تحديد المسؤول عن اللجان التحقيقية الذي انتمى إلى جناح السيد هاني الفكيكي والزميل علي كريم في حزب البعث، موسى الشيخ راضي، وإلى الآخرين من "الأسماء المعروفة". حقا أن هذا تحد صعب، لأن القضية هنا تعني أناساً مارسوا "جرائم القتل المقصود والمتعمد" ويمكن ملاحقتهم قانونياً على هذا الأساس إلى يومنا هذا. لا يمتلك القارئ إلا التساؤل: هل أن انتماء السيد موسى الشيخ راضي إلى الجناح السوري من حزب البعث يعفيه من هذه الجرائم؟ أم أن تزعم السيد اياد علاوي لحركة "ديموقراطية" معارضة للنظام الحالي هي الوفاق الوطني العراقي يصلح حجة لاستبدال اسمه ب"آخرين"، علماً أنه كان عضواً في لجان الإنذار.
وماذا بعد؟ لقد كتب شيوعيون وغيرهم كثيراً عن جريمة قطار الموت الشهيرة حين حاول الفكيكي إظهارها محاولة لإنقاذ السجناء من الضباط الذين أرادوا قتلهم، ولهذا لن أتناول هذه القضية هنا. ولكن كيف يتجرأ قائد مسؤول على القول أن الضباط، لا "الحزب القائد هو المسؤول عن الجرائم" وينسى أنه بعد صفحات عدة فقط ص 171 يعترف بأن صالح مهدي عماش نقل باسم العسكر شكاوى تقول إن الحرس القومي يهين الضباط والمسؤولين والديبلوماسيين، وان وزارة الداخلية تسجل يومياً ما معدله ستة قتلى جراء المزاح المزاح فقط بين "رفاق" الحرس القومي وهم يعبثون بلعبتهم الطريفة: رشاشات بورسعيد المصرية الصنع. ببساطة شديدة يقول لنا المسؤول أن المزاح كلف الشعب العراقي 1600 قتيل أثناء حكم البعث، فما بالكم بالجد؟ ومع هذا علينا أن نصدق أن العسكر وليس كاتب هذه السطور متيماً بحبهم هم المسؤولون عن الجرائم.
بعد هذه الشكوى من عماش، وغيره، تتشكل لجنة تحقيقية يقودها قائد محسوب على الجناح "اليساري" المتعاطف مع الحرس القومي. يعلن هذا القائد، كما ورد في مذكرات شبيب: "لو عرفتم ما فيه لحمدتم ربكم على ما تعلمون". ص173 . ومع هذا، فلا بد أن نصدق ما قاله صدام حسين، قبل شبيب والفكيكي بربع قرن، أن المندسين هم المسؤولون.
تسألون عن بيان 13 الشهير الصادر بعد أسبوعين من انقلاب شباط والداعي إلى إبادة الشيوعيين؟ كان هدفه ببساطة حقن الدماء لا إسالتها، لأن شبيب وشارحه السيد علي كريم يتطوعان لإبلاغنا أن البيان صدر بعد أسبوع من الانقلاب 15/2/1963 وكان هدفه ردع المقاومة، وإنهم لم يخططوا لمحاربة الحزب الشيوعي، بل أن مقاومة الشيوعيين للانقلاب هي التي جلبت غضب السلطة:
"كانت تجري في بغداد تحركات عسكرية مكثفة، بينما استمر إطلاق النار على القطعات المتحركة، والتظاهرات المعادية… مما اضطرّنا إلى إصدار البيان الشهير والحازم الذي أخذ اسم رقم 13، وسمى الشيوعيين لأول مرة بالمقاومين للثورة والمدافعين عن الفردية والديكتاتورية العسكرية، وتوعد من سيتعرض إلى أفراد القوات المسلحة بأشد العقوبات، وتنفيذها فوراً ودون رحمة.
ولم يصدر البيان المذكور، ولا صدر لغرض إباحة الدماء وسفكها، وإنما سعياً لإيقاف الاقتتال وحقن دماء أفراد لا ضرورة لهدرها". ص10
ينسى صاحب المذكرات وشارحه التناقض الذي يقعان به عند الإشارة ص 175 إلى أن المجلس الوطني لقيادة الثورة شكل منذ الأسبوع الأول للانقلاب "لجنة عليا من مسؤولين في الحزب، لديهم معرفة تنظيمية وسياسية بتركيبة الحزب الشيوعي وأساليب العمل السري المعتمدة. وذلك بعد تكاثر عدد المعتقلين الشيوعيين".
تصفيات جسدية، إعدامات، تعذيب حتى الموت يجري بعضها بحضور سكرتير الحزب علي صالح السعدي ص193، قائد حزبي يتخذ من قصر النهاية المرعب مكتباً له لقيادة كافة لجان التحقيق ذات الصلاحيات المطلقة ص192، والرجل الثاني في حزب البعث حازم جواد وزير للدولة لشؤون رئاسة الجمهورية لمراقبة رئيس الجمهورية عبدالسلام عارف مقر وزارته في قصر النهاية هنا يستخدم السيد علي كريم التسمية القديمة للقصر: قصر الرحاب مصادفة؟، وفظائع يعترف بوجودها الفكيكي وشبيب وعلي كريم، لكن المطلوب أن نقول معهم أن مندسين على الجسم النقي للحزب يقفون وراءها. لماذا؟ لأن ديكتاتورية الحزب لم تكن مطلقة بما يكفي، وتلك هي مشكلة الحكم في العراق كما يرونها في نهاية التسعينات وكما رآها صدام حسين من قبلهم: لا غياب الديموقراطية، كما تعتقدون، بل غياب الدكتاتورية. أليسوا اليوم مناضلين باسم التعددية والديموقراطية؟؟؟
قراءة في ثلاثة كتب:
هاني الفكيكي "أوكار الهزيمة: تجربتي في حزب البعث العراقي"، رياض الريّس للنشر، لندن وقبرص، 1993.
د. علي كريم سعيد "عراق 8 شباط 1963 من حوار المفاهيم إلى حوار الدم: مراجعات في ذاكرة طالب شبيب"، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1999.
د.رحيم عجينه، الاختيار المتجدد: ذكريات شخصية وصفحات من مسيرة الحزب الشيوعي العراقي، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1998.
* كاتب عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.