الأخضر السعودي 18 عاماً يخسر من مالي    الإبراهيم: تشجيع الابتكار وتطوير رأس المال البشري يسرعان النمو الاقتصادي    النفط يستقر فوق 88 دولاراً.. وأسهم أمريكا تتراجع    «الرابطة» تُدين استمرار الاحتلال ارتكاب جرائم الحرب في غزة    الإبراهيم: إستراتيجياتنا تحدث نقلة اقتصادية هيكلية    الراقي في اختبار مدرسة الوسطى.. الوحدة والفيحاء يواجهان الحزم والطائي    ميندي وهندي والنابت مهددون بالغياب عن الأهلي    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    أدوات الفكر في القرآن    4 نصائح طبية عند استعمال كريم الوقاية من الشمس    الملك يغادر المستشفى بعد استكمال فحوصات روتينية    بيع "لوحة الآنسة ليسر" للرسام كليمت بمبلغ 32 مليون يورو    الأوبرا قنطرة إبداع    في ذكرى انطلاقة الرؤية.. مسيرة طموحة لوطن عظيم    الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج طلبة «كلية الأعمال» في جامعة الفيصل    حزب الله يطلق عشرات الصواريخ على إسرائيل ردّاً على مقتل مدنيين    تهدئة التوتر بين القوتين الاقتصاديتين في العالم    اللهيبي تُطلق ملتقى «نافس وشركاء النجاح»    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    لا تستعجلوا على الأول الابتدائي    "5 ضوابط" جديدة بمحمية "الإمام تركي"    سوناك وشولتس يتعهّدان دعم أوكرانيا "طالما استغرق الأمر" (تحديث)    مين السبب في الحب ؟!    مشاهدات مليارية !    أهلاً بالأربعين..    مساعد رئيس مجلس الشورى تلتقي بوفد من كبار مساعدي ومستشاري أعضاء الكونغرس الأمريكي    النفع الصوري    حياكة الذهب    هلاليون هزموا الزعيم    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    زراعة 2130 شجرةً في طريق الملك فهد بالخبراء    166 مليار ريال سوق الاتصالات والتقنية بالسعودية    مسبح يبتلع عروساً ليلة زفافها    "إكس" تطلق تطبيقاً للتلفاز الذكي    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    اكتشاف بكتيريا قاتلة بمحطة الفضاء الدولية    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    961 مليونا ً لمستفيدي «سكني»    أمير الشرقية: القيادة تولي العلم والتنمية البشرية رعاية خاصة    تحت رعاية وزير الداخلية.. "أمن المنشآت" تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    دورة تأهيلية ل138 مستفيداً ومستفيدةً من برنامج الإعداد للابتعاث    مقصد للرحالة والمؤرخين على مرِّ العصور.. سدوس.. علامة تاريخية في جزيرة العرب    رسالة فنية    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    الإسباني "خوسيلو" على رادار أندية الدوري السعودي    عيدية كرة القدم    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    جاسم أحمد الجاسم عضو اتحاد القدم السابق ل"البلاد": الهلال يغرد خارج السرب.. وحديث المجالس وضع" هجر" في مهب الريح    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    قطاع القحمة الصحي يُنظّم فعالية "الأسبوع العالمي للتحصينات"    أمير عسير يواسي أسرة آل جفشر    أمير حائل يرفع الشكر والامتنان للقيادة على منح متضرري «طابة» تعويضات السكن    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحدي الناصرية والشهابية وتفجر الطبقات والطوائف داخل الجسم الواحد
نشر في الحياة يوم 17 - 06 - 2015

بعد أن تناولت حلقة الأمس البدايات الأولى في دمشق والجامعة الأميركية ببيروت ومقاصد صيدا، هنا التتمة:
منذ فجر الستينات، راح يحتدم التنافس القائم أصلاً بين البعثيين و «حركة القوميين العرب» ويتحول إلى عداوة، تبعاً لالتحام الحركة بالناصرية وابتعاد البعث عنها. والحال أن التنظيمين العروبيين، اللذين تجمع بينهما الدعوة القومية والوحدوية، اختلفا في أمور أخرى. فبفعل النشأة، كان طريق البعث إلى العروبة سورياً، وبالتالي كانت حساسيته الأولى سورية، فيما، وبفعل النشأة أيضاً، كان طريق الحركة وحساسيتها فلسطينيين. وقد عرف البعث من بداياته، إلى سُنّته والقلائل من مسيحييه، حضوراً شيعياً لم يقل مرةً عن الحضور السنّي، قبل أن يبزه لاحقاً. كما وُجد في المناطق الحدودية المحاذية لسورية، كالهرمل وعكار وشبعا، لا سيما بعد «ثورة» 1958 التي متنت صلات تلك المناطق بمدينة حمص على حساب الصلة الهشة حتى ذلك التاريخ بالمركز البيروتي.
أما «الحركة» فطغى عليها الوجود السنّي، البيروتي والطرابلسي والصيداوي، وإن أحدثت اختراقات شيعية في صور خصوصاً، وفي باقي الجنوب، بفعل تأثير الموضوع الفلسطيني هناك.
ثم إن البعثيين كانوا، طبقياً واجتماعياً، أعلى كعباً من الحركيين، وأوثق صلة بمؤسسات التعليم الأجنبي كما ببيوت القرار السياسي. وهم، إلى ذلك، بدوا أقل تشدداً في إسلامهم وفي الالتزام الأخلاقي والسلوكي الذي يُفترض أن يترتب عليه. وأخيراً، لم يشارك البعثيون الحركيين، القائلين بالدم والحديد والنار والثأر، إعجابهم بالقوة والعسكرة المستوحى، ولو عبر ترجمات متعثرة، من النماذج الفاشية، مفضلين التشديد على «اشتراكيتهم العربية».
وفي التنازع هذا حاول بعض رموز الحركة، كمحمد الزيات في صور، وبدرجة أقل مصطفى الصيداوي في طرابلس، أن يقدموا ل «الشارع المسلم» قيادات بديلة عن القيادات البعثية، كالرافعي في طرابلس، أو القريبة من البعث كجعفر شرف الدين في صور.
غير أن الحركة لم تكن مؤهلة، بفعل الشروط اللبنانية، لاستثمار الضربات التي كالتها الناصرية للبعث، إذ عزلته وحولت البعثيين طائفةً صغيرةً مسدودة الآفاق، لا سيما أن البيئة المسيحية التي شاركوا في قتالها عام 1958، واستمروا يصمونها بالانعزالية، كانت موصدة تماماً في وجوههم.
وفي الغيتو هذا، وتحت وطأة الشعور بالإهانة والإلغاء، تعاظم العداء لعبدالناصر واحتقن، فكان لافتاً أن ينجذب بعض البعثيين ومعظم قادتهم إلى أطروحات أكرم الحوراني الذي انشق عن البعث وأيد بحماسة الانفصال السوري عن مصر وصار من أقطابه. هكذا، وبالتضامن مع خلافات تنظيمية ومطالبات بتوسيع صلاحيات القيادة القُطرية حيال القيادة القومية، عرف البعث اللبناني، بعد المؤتمر القومي الخامس أواسط 1962، والذي انعقد في مدينة حمص، انشقاقه الأول أو زلزاله الأول، بحيث حل عفلق «قيادة قُطر لبنان» مُبعداً «المتآمرين» عن الجسم الحزبي.
فعلى الضد مما كان يحصل في البلدان العربية، حيث راح ينشق «ناصريو» البعث عنه، ارتبط الانشقاق في لبنان بتوكيد أولوية الديموقراطية على الوحدة العربية، والتحفظ عن عبدالناصر وطرقه الديكتاتورية في الحكم. وكان من قادة الخط هذا غسان وطلال شرارة وغالب ياغي وعبدالوهاب شميطلي وفؤاد ذبيان وحسيب عبدالجواد وألبير منصور وفؤاد شبقلو وحسين عثمان. وكان للخط هذا أن خاطب مَن هم أوثق صلة بالقواعد، وأقل انشداداً إلى الصالون البيروتي، كالقيادي النقابي علي حوماني، رئيس نقابة عمال المرفأ، وخليل بركات، رئيس بلدية كفر دونين الجنوبية، وإن عاد أدراجه لاحقاً إلى البعث، مثله في ذلك مثل حسين عثمان.
ضد عبدالناصر
والحال أن صورة التعارض تزداد وضوحاً لدى مقارنة الوجهة التي اختطها البعث اللبناني بوجهة البعثين الأردني والعراقي اللذين انشق وطُرد قائداهما المنحازان إلى الرئيس المصري، عبدالله الريماوي وفؤاد الركابي. ولم يكن بلا دلالة أن البعثيين العرب المتحولين إلى الناصرية، بمن فيهم السوريون الذين أنشأوا «حركة الوحدويين الاشتراكيين»، لم يتركوا أثراً ملحوظاً على رفاقهم اللبنانيين يتعدى انشقاق مَن لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة، وقف على رأسهم سامي الرفاعي، شقيق نائب بعلبك السنّي حسن الرفاعي.
أكثر من هذا، سجل المؤتمر القومي الخامس صراع الخط الأردني، ذي الغلبة الفلسطينية، المُطالب بإعادة الوحدة مع مصر فوراً، والخط اللبناني المتشدد حيال عبدالناصر والرافض التعاون معه، فيما وقف عفلق بين الخطين لا يؤيده من أصل أحد عشر مندوباً لبنانياً حضروا المؤتمر سوى علي جابر وجبران مجدلاني.
وأغلب الظن أن ما حكم وجهة البعث اللبناني كان تضافراً بين عاملين، أحدهما موقع «الحرية» من الثقافة السياسية اللبنانية عموماً، والذي تعزز في أجواء الصدام مع الدولة الشهابية وأجهزتها، والثاني توسع الحضور الشيعي في الحزب، والذي أوصل البعث إلى بعض النقابات وضاعف حضوره في أطراف جنوبية وبقاعية كان الشيوعيون يحتكرون محاولات تسييسها.
لكنْ، إذا كانت ناصرية البعث حتى أواخر الخمسينات مصدر الاحتضان السنّي له، فقد اختلفت المؤثرات العميقة، العاطفية أو المصلحية، عند الشيعة. ففي بعلبك والبقاع كان بادياً أثر الجوار مع سورية، وهو متعدد الوجه يسنده ماضٍ «وحدوي» قريب. أما في الجنوب، فخاطبت سورية الحزب العفلقي إحساس جبل عامل بأن جبل لبنان همشه في «لبنان الكبير». إلا أن تلك السورية كانت أيضاً تستحضر دمشقيةَ الارتباط الشعوري بفيصل الأول، بوصفه ابن أهل البيت، هو الذي دغدغت دولته العربية السريعة الزوال مشاعر التحفظ الصلب عن لبنان. ولئن كانت «العصابات» الجنوبية علامة على متانة الصلة هذه، فإن عائلات جنوبية كثيرة رحلت مع فيصل وانتهى بها المطاف إلى الاستقرار في الأردن، في ظل شقيقه عبدالله، الأمير ثم الملك. ولما كان البعث «تمرداً على الحدود»، فإنه تراءى دواءً يسكن الجرح النرجسي للشيعة، إن لم يعالجه كلياً.
أما في وقت لاحق، فكان لإقامة أحد أبرز مراجعهم الدينية، اللبناني والجنوبي محسن الأمين، في العاصمة السورية، وعلى مقربة من مقام السيدة زينب، أن عزز تلك المشاعر. ولأن الأمين حرم اللطم في عاشوراء، واستحق بفعله هذا عداء المؤسسة الشيعية الإيرانية، الموغلة في المحافظة، بدا سهلاً أن يعاد تأويله داعيةً عروبياً وتقدمياً في وقت واحد.
ولئن لم تملك الناصرية أصولاً حميمة كهذه، هي المصرية البعيدة والسنّية «الأُخرى»، فإن الشيوعية كانت لا تزال تئن تحت وطأة إعاقاتها. فلقد وسعها أن تناشد من هم أفقر وأكثر استبعاداً، لكنْ بدا من الصعب أن تلبي التطلب الثقافي والروحي لأُسَر تعتد بموقع نافذ لها في السياسة أو الثقافة والدين أو في العدد والمكانة. وإلى ذلك فالموقفان السالبان للشيوعيين، من تقسيم فلسطين في 1947 ثم من وحدة 1958، رتبا سلفاً على معتنق الشيوعية دَيناً ليس المقبل على السياسة مضطراً إلى استدانته.
ولم تتردد القيادة العفلقية في «اتهام» المنشقين والمطرودين بعد المؤتمر القومي الخامس بالماركسية، مركزةً بصورة خاصة على غالب ياغي وغسان شرارة وعبدالوهاب شميطلي، فضلاً عن الروائي اللاحق، السعودي - العراقي، عبدالرحمن منيف. أما الأخيرون الذين استدرجت بعضَهم الجاذبيةُ الشعبية للحوراني، فأخذوا على عفلق ما اعتبروه ميولاً تسووية وانتهازية، كما لم يغفروا له حل الحزب في سورية كرمى للوحدة مع مصر الناصرية.
وعلى مستوى القواعد، بدأت تتردد تعابير تتصل ب «الصراع الطبقي» ومتفرعاته مُطبَقةً على البعث نفسه، فشاع هجاء «التقليديين» و «الرجعيين» و «الانتهازيين» الذين لا ينوون إلا بلوغ البرلمان على جسر الحزب، أو على جثته. وانتشر استهجان مشوب بالسخرية الريفية حيال بيوت القادة الحزبيين الأغنياء، بل قصور قلة منهم في بيروت.
8 آذار والسنوات السود
لئن أدى انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 البعثي في سورية، بعد شهر على انقلاب مشابه في العراق، إلى انفراج نسبي في وضع البعث اللبناني، فإن انشقاقات صغرى تلاحقت بنتيجة الموقف من الانفصال السوري، ثم بسبب تناقضات السلطة البعثية الجديدة في دمشق. فكان للأطروحات اليسارية التي حملها المؤتمر القومي السادس، أواخر 1963، والمعروفة ب «المنطلقات النظرية»، أن استقطبت شباناً انحازوا إلى علي صالح السعدي في بغداد ضداً على «اليمين العفلقي»، كما تأثروا بأفكار ياسين الحافظ الذي كتب «المنطلقات» وأحل «الاشتراكية العلمية» الماركسية محل «الاشتراكية العربية» لعفلق. وعقد هؤلاء مؤتمراً قُطرياً في شباط (فبراير) 1964، لكن القيادة القومية التي لم تُقر بشرعية المؤتمر المذكور، عينت، للمرة الثانية في أقل من عامين، قيادة قطرية بديلة تشارك في التحضير للمؤتمر القومي السابع. وإذ كُلف المحامي البعثي والبيروتي محمد خير الدويري أمانة سر القيادة البديلة، خرج عن الجسم الحزبي رياض رعد وهشام عبدو والمهندس والوزير اللاحق الفضل شلق، لينتهي بهم المطاف، بعد سنتين، في «حزب العمال الثوري الاشتراكي العربي». والأخير، الذي لا يندرج إلا تجاوزاً في «اليسار الجديد»، بسبب حقبة الولادة المشتركة وكونه خارج الشيوعية الرسمية، كان بالغ الإيجابية حيال عبدالناصر الذي تحفظ عنه، أو عاداه، معظم المتمركسين من خارج الحزب الشيوعي. وأغلب الظن أن العامل هذا هو ما جعله يخاطب بين البعثيين عناصر يغلب سنّتهم، كالكوراني شلق والطرابلسي عبدو، على شيعتهم.
بيد أن ضبط البعث بات مهمة تفوق قدرات الدويري وكفاءاته. فهو، أصلاً، أحد المتَهمين باليمينية وتوسل الحزب للوصول إلى البرلمان. ثم إن المؤتمر السابع الذي أريد منه الرد على المؤتمر السادس ويساريته، جاء مثقلاً بالهم العراقي تبعاً لانقلاب أواخر 1963 الذي قاده عبدالسلام عارف وبموجبه أزيح البعث عن السلطة.
وفي استغراقه العراقي لم يكترث المؤتمر الذي انعقد في «المسرح العسكري» بدمشق بهموم التنظيم اللبناني فتُرك لتصدعاته وانشقاقاته. هكذا، غادره عدد من الشبان الباحثين عما يملأ «فراغ البعث النظري» في هذا الطرح الماركسي أو ذاك. وفي عداد المغادرين كان مدرسون كالشاعر عصام العبدالله من الخيام، ومثقفون كالجامعي والكاتب اللاحق فواز طرابلسي، من مشغرة، الذي ساهم بعد ذاك في تأسيس مجموعة «لبنان الاشتراكي»، ثم أكمل طريقه في قيادة «منظمة العمل الشيوعي».
أبعد من هذا أن الانفراج الجزئي الذي نجم عن انقلاب 1963 السوري لم يعمر طويلاً. ذاك أن الصراع الناصري – البعثي ما لبث أن تجدد بحدة غير مسبوقة، خصوصاً مع انهيار مشروع «الاتحاد الثلاثي»، المصري – السوري – العراقي، وتصفية البعثيين الدموية للمحاولة الانقلابية التي قادها الضابط الناصري جاسم علوان صيف 1963. وأمام حائط التحالف الناصري – الشهابي، معطوفاً على عزلة البعث الجماهيرية، استنكف الرافعي عن الترشح لانتخابات 1964، ووقف بعثيو صيدا في صف المعارضة الشمعونية والسلامية فأيدوا نزيه البزري بدل معروف سعد، ما بدا مستهجَناً جداً في حزب عروبي.
جلال مرهج وجلال كعوش
وانشغل البعث اللبناني، بين 1963 و1964، بما عُرف يومذاك ب «قضية جلال مرهج». ففي بيروت ألقي القبض على هذا الضابط السوري بتهمة نقل متفجرات للسياسي الشمعوني والشوفي قحطان حمادة هدفها «القيام بأعمال تخريبية» في لبنان. ولما كانت محاولة الانقلاب القومي السوري لا تزال طرية في الأذهان، وكان السفير المصري عبدالحميد غالب الرجل الأقوى في بيروت، ارتسمت صورة عجيبة عن حلف يجمع النظام البعثي في دمشق إلى كميل شمعون و «الانعزالية المسيحية»، هدفه مقاومة النفوذ الناصري والعهد الشهابي معاً. وما زاد في صعوبات الحزب، وقد أضيف إليها استهداف الأجهزة الشهابية المركز، صلاته بما أصبح لاحقاً حركة «فتح». ففي 1965 تلاقت مصالح البعث في سورية ومصالح الفتحاويين الأوائل عند صد النفوذ الناصري وتحالفه مع الشهابية، ووجد التلاقي تعبيره في ازدواج الولاء لفتح وللبعث عند قياديين فتحاويين كفاروق القدومي وعبد المحسن أبو ميزر وكمال ناصر، لكنْ خصوصاً عند خالد يشرطي، القيادي الناشط والمقيم في بيروت. وقدم البعثيون الشابَ الفلسطينياللبناني جلال كعوش الذي حاول تنفيذ إحدى العمليات الفدائية المبكرة، ثم قضى مطالع 1966 في سجن لبناني، بوصفه مناضلاً وشهيداً بعثياً أردته «السلطة الرجعية» في بيروت.
وإذ انهار علي جابر في إحدى جلسات محاكمة الضابط جلال مرهج، وعُدّ متخاذلاً وانهزامياً، بدأ جيل جديد، أمتن في جذوره الريفية، يتقدم إلى الواجهة القيادية للبعث، وكان من رموزه الجنوبيان عبد الأمير عباس والمدرس محمد عواضة، والبقاعيان عاصم قانصوه، المهندس الذي تخرج في رومانيا، وسهيل سكرية، المحامي وابن قرية الفاكهة الذي تخرج في جامعة بيروت العربية، والطرابلسي عبدالله الشهال. ولئن كان الأخير ابن تاجر أدوية متوسط الحال وصهراً لعبدالمجيد الرافعي، فسكرية ابن مختار قريته، وقانصوه نجل مغترب.
وفي تلك الغضون كان البعثيون يعتمدون صحيفتي «الكفاح» اليومية و «الأحد» الأسبوعية لصاحبهما النقيب رياض طه منبرين لهم. لكنهم أنشأوا جريدة «الأحرار» اليومية، في آذار 1964، والتي عاشت حتى أيار (مايو) 1967، بوصفها صوتاً حزبياً يستأنف ما كانته «الصحافة» الأسبوعية، فتولى رئاسة تحريرها الصحافي جان عبيد، الموصوف حينذاك بالقرب من البعث، والذي بات لاحقاً نائباً ووزيراً، والصحافي ذو الأصول السورية والشيوعية رفيق خوري، وكلٌ من الياس الفرزلي وسليمان الفرزلي ورغيد الصلح.
Vغير أن الضربة القاصمة للبعث اللبناني، كما للبعث في كل مكان، كانت ما حل إثر انقلاب 23 شباط 1966 في سورية، حيث أقصى «اليسارُ» العسكري للقيادة القُطرية «اليمينَ» المدني للقيادة القومية. وهنا أيضاً لم يُعدم الانشقاق دلالات اجتماعية أعرض: فأغلب السنّة والمسيحيين والَوا قيادة عفلق «القومية»، يصح هذا في الرافعي ومجدلاني والفرزلي والعلي وكرم والداعوق، فيما والَت غالبية الشيعة، لا سيما الجنوبيين منهم، خط صلاح جديد «القطري»، وهو ما ينطبق على الأمين وقانصوه وعواضة وعباس. ثم إن الأكثرية كانت مدينية في جبهة «القوميين»، معظم أفرادها من أوائل البعثيين، بينما غلبت على «القُطريين» أكثرية ريفية يقل متوسطُ أعمارها سنواتٍ قليلة عن متوسط أعمار الجبهة الأولى. وبشيء من الترميز يصح الكلام، عند المنعطف هذا، عن إتمام الطلاق بين بعث الجامعة الأميركية في بيروت وبعث المدارس والمعلمين في الأطراف.
وبالفعل نبذ «القُطريون» كتابات عفلق وتوقفوا عن استظهار محفوظاته، معتمدين برنامج تثقيف ماركسياً ولينينياً، ضم إلى «البيان الشيوعي» ومدرسيات الماديتين الجدلية والتاريخية «منطلقات» ياسين الحافظ. وبدا واضحاً، في المقابل، أن أجواء التطرف السوري، بعد 23 شباط، لن توفر أية فرصة لطموح طامحي البعث اللبناني الكثيرين ممن سارعوا إلى إصدار بيان يدين الانقلاب «القُطري».
وفي الوضع المستجد هذا مضى الفرعان، اللذان صارا حزبين، ينتجان كوادر قيادية جديدة، فبرز بين «القطريين» عبدالله الأمين، قريب مالك، والمدرس المتفرع من أب متوسط الحال عمل موظفاً في المحاكم الجعفرية، كما ظهر قياديون يعيش بعضهم في بيئة الهجرة الجنوبية إلى النبعة وبرج حمود، كالحِرَفيين علي نادي وإبراهيم عيسى من بنت جبيل، أو المدرس أمين سعد، وهو أيضاً من بنت جبيل، تطوع في منظمة «الصاعقة» وحمل اسم «الأخضر العربي»، وباسمه هذا قضى في العرقوب في إحدى المواجهات مع إسرائيل.
أما بين «القوميين» فظهرت أسماء الباحث والكاتب اللاحق رغيد الصلح، والناشطين معن بشور وهاني سليمان حيدر، والنائب والوزير في التسعينات بشارة مرهج، والناشر اللاحق عماد شبارو، ومنصور حريق، والشاعر موسى شعيب، وأكثرهم باشروا الشأن العام بوصفهم قيادات طالبية في الجامعة الأميركية ببيروت.
لكن كلاً من البعثين راحت تواجهه أوضاع شديدة التغير والدرامية. ففي 1970، انقلب حافظ الأسد على رفاقه «القُطريين» الموصوفين بالتطرف اليساري، فانشطر مؤيدو دمشق اللبنانيون بين من التحقوا بالأسد، وعلى رأسهم قانصوه والشهال وعبدالله الأمين، والذين تمسكوا بولائهم للجناح الذي أطيح، يتقدمهم مالك الأمين وبيضون وعواضة، ممن عُرفوا ب «جماعة الراية»، تبعاً للمجلة التي كان يصدرها التنظيم ويرأس المحامي والصحافي فضل الأمين تحريرها، والتي استمر اليساريون يصدرونها إلى حين.
أما أنصار «القيادة القومية» الذين أنعشهم الانقلاب البعثي العفلقي الثاني في العراق عام 1968، كاسراً من حولهم الحصار المزدوج السوري والناصري، فرشحوا للانتخابات النيابية عامذاك كلاً من الرافعي في طرابلس ومحمد حرب في بعلبك. بيد أنهم نجحوا ابتداءً ب1970 في أن يستثمروا رغبة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية في توسيع علاقاته العربية. ذاك أن الأخير سعى إلى الجمع بين صداقة حافظ الأسد والتمايز النسبي عن سياساته العربية، بالاتكاء على صلات جيدة ببغداد. كذلك عول فرنجية على العراق غطاءً عربياً لنهجه المناهض لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، المستظلة يومذاك بتشجيع سوري. وكان للفترة تلك أن سجلت فتوراً فلسطينياً – عراقياً بسبب امتناع القوات العراقية في الأردن عن إنجاد المقاومة الفلسطينية في مواجهات أيلول (سبتمبر) 1970 مع الجيش الأردني.
وعبر وسطاء كتقي الدين الصلح وجان عبيد، وبالإفادة من رغبة فرنجية في تحجيم النفوذ الشمالي لرشيد كرامي، اصطحب الرافعي على لائحته في انتخابات 1972 مرشحاً مسيحياً مُزكى من فرنجية، هو غبريال خلاط، كما حصد غالبية أصوات المسيحيين ودخل الندوة النيابية بأرقام تفوق ما أحرزه كرامي. هكذا بات للبعث، وللمرة الأولى في لبنان، عضو في البرلمان.
وفي الانتخابات نفسها رشح البعثيون «القوميون» حسين عثمان في بعلبك، متحالفاً مع الشيوعي زكريا رعد، كما رشحوا موسى شعيب عن النبطية، ثم أعادوا الكرة في الانتخابات الفرعية عام 1974، لكنه جاء ثالثاً بعيداً، بعد مرشح الإمام موسى الصدر الذي فاز ومرشحَي كامل الأسعد والحزب الشيوعي اللبناني.
أما البعثيون الموالون لدمشق فسلكوا هم أيضاً طريقاً مشابهاً، فتمكنوا من ترشيح المحامي محمد زكريا عيتاني على لائحة عبدالله اليافي، منافس صائب سلام، في دائرة بيروت الثالثة، داعمين لائحة خالد صاغية في عكار ومعركة محمود طبو في المنية – الضنية.
ولم يتردد بعث «الراية»، على رغم صعوباته الكثيرة، في ترشيح أحد كوادره، المدرس علي يوسف، في بنت جبيل، حيث حصد ما يفوق الألف صوت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.