من أقدم الصفات التي عُرفت عن العرب، وأرفع القيم التي تميزوا بها، إكرام الضيف. فقد كانت هذه الخصلة عنوانًا للمروءة، ودليلًا على النبل، وسِمَةً يفتخر بها البيت العربي، حتى صار يُعرف صاحب الكرم من باب بيته المفتوح، وموقد ناره التي لا تنطفئ. ولا شك أن هذا الخلق الأصيل ظلّ حاضرًا في ثقافتنا العربية جيلاً بعد جيل، حتى أصبح من رموز الهوية والكرم الأصيل. ولأن الإسلام جاء متممًا لمكارم الأخلاق، فقد عزز هذا الخلق النبيل، وربطه بالعقيدة نفسها، فجعل إكرام الضيف شعبة من شعب الإيمان، كما في الحديث الذي رواه البيهقي في كتابه شُعب الإيمان: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". وأعتقد أن في هذا الدمج بين الإيمان والسلوك رسالة عظيمة، تؤكد أن القيم ليست مجرد أخلاق اجتماعية، بل انعكاس حقيقي لما في القلب من إيمان وصدق انتماء. وقد كان العرب يقولون: "الضيف يُكرم ثلاثًا: ثلاثة أيام"، وهي عبارة تعبّر عن مدى التزام العربي بخدمة ضيفه، ولو طالت مدته، فالأصل في الضيافة أنها دين وواجب، لا منّة فيه ولا تكلّف. وربما يُدهشك اليوم كيف كان البسطاء في الماضي يُكرمون الضيف بأدوات قليلة، لكن بقيمة عالية من التقدير والاحترام. في رأيي الشخصي، نحن بحاجة اليوم إلى إعادة النظر في مفهوم "الإكرام"، فقد أصبحت بعض مظاهره تميل إلى المبالغة والمظاهر، حتى تجاوزت حد الاعتدال، وتحولت –مع الأسف– إلى مناسبات للاستعراض والتفاخر، تُنهك الجيوب وتُحرج الضيوف. وأحيانًا، يُشعر الضيف أنه عبء ثقيل بدلاً من أن يكون موضع ترحيب ومحبة. ولا شك أن الإكرام الحقيقي لا يُقاس بكثرة الأطباق أو ارتفاع قيمة الولائم، بل في صدق المشاعر، وحرارة الاستقبال، وكرم النفس قبل كرم اليد. ومن هنا أقول بكل وضوح: الإكرام لا يعني التبذير، ولا يرتبط بالمباهاة، بل هو خلق متوازن، يقوم على البذل بلا إسراف، والاهتمام دون تكلّف، قال الله تعالى: "وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". وفي هذا تنبيه واضح إلى أن الإنفاق المشروع لا بد أن يكون محكومًا بالحكمة، لا بالرياء، ولا بملاحقة المظاهر الاجتماعية الزائفة، وباعتقادي، فإن إكرام الضيف حين يُمارس بروحه الحقيقية، يصبح سلوكًا حضاريًا راقيًا، يعكس مستوى الوعي والتربية، ويحمل في طياته معاني المودة، والتقدير، والتواضع، وما أجمل أن نغرس في أبنائنا هذا الخلق العظيم، لكن مع التأكيد على التوازن، بعيدًا عن الرياء والمظاهر. فالضيافة الحقة هي التي تُشعر الضيف بالأُنس لا بالحرج، وبالمحبة لا بالمنّ، وبالعفوية لا بالتكلّف، وأنتي أؤمن أن من واجبنا –كأفراد ومجتمع– أن نُحيي هذا الخلق بروحه الأصيلة، ونقدمه للأجيال القادمة لا كشكلٍ اجتماعي، بل كقيمة إيمانية، تضيء المجالس وتُعلي من قدر أصحابها وتحقق جمال موروثنا العظيم.