في القرن الماضي، شكّل النفط مورداً استراتيجياً حرّك الاقتصادات، وأعاد رسم خرائط القوى العالمية. واليوم، يظهر نوع جديد من الموارد لا يقل قيمة أو أهمية، بل يفوقه ارتباطاً بحياة الإنسان وخصوصيته ألا وهو البيانات الجينومية والصحية. وقد بات هذا المورد موضوع نقاش عالمي، حيث ترى مؤسسات كبرى، مثل: منظمة التعاون الاقتصادي والتنموي ومعهد راند، أن استخدام البيانات البيولوجية كسلعة قابلة للتداول يثير تحديات أخلاقية وسيادية عميقة. فقد وصف معهد راند في تحليله الصادر في يوليو 2024 البيانات الجينومية بأنها "النفط الجديد للشرق الأوسط"، مشيراً إلى تسابق دول الخليج –من بينها السعودية والإمارات وقطر– لبناء قواعد بيانات صحية معتبرة كثروة استراتيجية بديلة عن النفط. لكن بينما تركز هذه النقاشات غالباً على العوائد الاقتصادية، يبقى البعد الإنساني والأمني والأخلاقي بحاجة إلى تسليط الضوء بعمق أكبر، خاصةً في العالم العربي. وتشمل هذه البيانات كل ما يتعلق بتسلسل الحمض النووي، والسجلات الطبية، ونمط الحياة، وقراءات الأجهزة الذكية القابلة للارتداء أو الحمل. وقد باتت تُعد من أبرز الأصول الاستراتيجية في الطب الحديث، إذ تتيح تصميم علاجات دقيقة ومخصصة لكل فرد، بدلاً من اعتماد نموذج واحد يناسب الجميع. كما تمكّن من التنبؤ بالأمراض قبل ظهورها، وتسريع اكتشاف وتطوير الأدوية بواسطة الذكاء الاصطناعي، لتحليل كم هائل من البيانات والأنماط التي يصعب على البشر ملاحظتها. فهي تحمل وعوداً هائلة، لكنها في الوقت ذاته محفوفة بالتحديات والمحاذير. الجينوم البشري ليس مجرد شفرة، بل هو دليل عمل للجسم، وعند دمجه مع سجل متكامل للبيانات الصحية، نحصل على صورة ديناميكية دقيقة للهوية البيولوجية للفرد، هذا المورد المعرفي يمكّن من الانتقال من الطب التقليدي إلى الطب الشخصي، حيث يُنظر إلى الإنسان كوحدة فريدة لا كمجموعة إحصائية. لكن إلى جانب هذه الفرص، تبرز تحديات دقيقة، البيانات الجينومية لا يمكن تغييرها أو إعادة ضبطها، وإذا ما تعرّضت للاختراق، فإن أثرها لا يقتصر على الفرد، بل يمتد إلى أقاربه والأجيال التي تليه، كما أن استخدام هذه البيانات خارج الضوابط قد يؤدي إلى قرارات تمييزية في التأمين أو التوظيف أو منح الخدمات، على سبيل الذكر، وفي بعض الحالات، تُجمع البيانات من مجتمعات لا تملك أدوات الحماية الكافية، ومن دون ضمان مشاركة عادلة في المنافع الناتجة عنها، وهنا تبرز الحاجة إلى أطر أخلاقية وقانونية متوازنة، تضمن ألا تتحول هذه البيانات إلى مصدر جديد لانعدام العدالة. لقد أصبح استخدام البيانات البيولوجية كسلعة قابلة للتداول موضع اهتمام متزايد بين المفكرين والمؤسسات الدولية. فقد حذّرت جهات مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من التبعات الأخلاقية والاقتصادية لتحوّل هذه البيانات إلى مورد تجاري وسياسي، في ظل غياب تنظيمات واضحة تحمي الأفراد وتضمن العدالة. ومع تطور التقنيات، تتسارع وتيرة الرقمنة الصحية، وتزداد الحاجة إلى الشفافية والمساءلة. فاليوم، تسيطر شركات خاصة على كميات ضخمة من البيانات الجينية، بينما تستثمر كبرى شركات التقنية في قطاع الرعاية الصحية، ما يثير تساؤلات جوهرية حول الملكية والاستخدام. في هذا السياق، يصبح السؤال الأهم: هل البيانات الحيوية ملك للفرد؟ أم أنها أصل وطني؟ أم مورد مشترك للصالح العام؟ هذه الأسئلة لم تُحسم بعد، لكن المؤكد أن غياب الوضوح يعمّق المخاطر. تمضي المملكة العربية السعودية، من خلال مبادرات مثل: برنامج الجينوم السعودي، في اتجاه استراتيجي لبناء قاعدة بيانات وطنية تُسهم في الطب الوقائي، وتعزز من جودة الرعاية الصحية. ومع هذه الخطوات، تصبح الحاجة إلى تشريعات متطورة أمراً ملحاً. وإذا كانت البيانات الجينومية هي "النفط الجديد"، فإن التعامل معها يستوجب حوكمة مرنة، وقوانين تحمي الخصوصية دون أن تعيق الابتكار، مع ضمان مشاركة عادلة في المنافع. فالأمر لا يخص التقنية فقط، بل يمس كرامة الإنسان وحقه في تقرير مصيره. فهذا المورد الجديد لا يُستخرج من الأرض، بل من أجسادنا، وإذا أردنا مستقبلاً تُستخدم فيه هذه البيانات لصالح الإنسان، لا ضده، فعلينا أن نتحرك اليوم، قبل أن تُبنى المنصات، وتُقنّن السياسات، وتُعاد صياغة النفوذ في عصر ما بعد البيانات؛ حيث تتحكم في المستقبل الخرائط الجينية لا الحدود الجغرافية.