يتبادر الى أذهان الكثير من الباحثين، وصناع القرار ومتخذيه، والقائمين على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في دول شتى، أن حدث 11 أيلول سبتمبر كان تعبيراً جلياً عن "تعولم" الحركة الإسلامية الراديكالية، التي انزلقت إلى "الإرهاب"، من منطلق أنها استطاعت أن تمس عصب أكبر دولة في عالمنا المعاصر، عسكرياً واقتصادياً، وهي الدولة التي تقود العولمة، وتصنع الجزء الأكثر أهمية من أشكالها وآلياتها ومقاصدها، خصوصاً في مجالات المال وتقنيات المعلومات والاتصال والاستراتيجيات. وما زاد من وجاهة هذا التصور وأعطاه مصداقية نسبية، أن رد فعل واشنطن حيال الحدث المذكور أخذ صيغة عالمية، من خلال سعي واشنطن إلى بناء تحالف دولي مناهض للإرهاب، ومن خلال استغلالها له في تحقيق أهداف استراتيجية عميقة ترتبط بسعيها إلى قيادة "العولمة". وهذا التصور يبدو دقيقاً اذا كنا بصدد تقويم القدرة التي وصل إليها تنظيم حركي ذو أهداف سياسية، تتعدى حدود الدول التي ينتمي إليها أفراده، وتحاول أن تلعب دوراً ما في السياسة الدولية المعاصرة برمتها. لكن التصور ذاته تعوزه الدقة اذا أخذنا في الاعتبار المحطات الزمنية التي مرّ بها هذا التنظيم في طريقه من المحلية إلى العالمية، انطلاقاً من لحظة البداية التي تشكل فيها، وحتى لحظة الذروة التي تمثلت في تفجير برجي مركز التجارة العالمي ومقر البنتاغون، مروراً بمحطات عدة صنعتها أنظمة سياسية إقليمية ودولية، عبر أجهزة استخباراتها ومخططي سياساتها. فإذا كان التنظيم الدولي لجماعة "الأخوان المسلمين" جزءاً من كيان الجماعة، التي ولدت في ظرف تاريخي، جعلها تضع نصب عينيها منذ البداية ضرورة أن تعبر القوميات من أجل تحقيق "الخلافة الإسلامية" التي سقطت قبل قيام هذه الجماعة بأربع سنوات فقط، فإن الحركة الإسلامية الراديكالية ونتحدث هنا عن الحالة المصرية لم يكن ضمن أولوياتها لحظة تشكلها التحرك خارج حدود الدولة، وتكوين "تنظيم دولي" ما، بل كانت أهدافها محددة في قضايا محلية أو داخلية، ذروتها تغيير نظام الحكم القائم بالقوة، باعتباره في نظرها "حكماً كافراً" أو "ظالماً" و"فاسقاً" على أقل تقدير، لأنه "لا يطبق الشريعة الإسلامية"، بالصيغة التي ترى هذه الجماعات أنها تعبر عن "صحيح الإسلام". ثم جاءت ظروف سياسية، نجمت أساساً عن صراع دولي خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي المنهار والولاياتالمتحدة الأميركية، جعلت هذه الجماعات تطل برأسها خارج الحدود المصرية. وبعدها تراكمت الأسباب التي جعلت من "الهجرة" مرحلة ضرورية تكتيكياً بالنسبة إليها. ومن هنا انفتح الباب أمام "تعولم" الإسلاميين الراديكاليين في مصر. والوصول إلى هذه المرحلة لم يتم عبر قفزة سريعة أخذت هؤلاء من التحرك محلياً إلى منازلة أكبر دولة في عالمنا المعاصر. إذ إن الخروج من مصر لم يغير، طوال ثلاثة عقود تقريباً، من تفكير قادة وأعضاء مختلف "الجماعات الإسلامية الراديكالية"، وهو التفكير الذي انصب أساساً على أن الهدف الرئيسي هو إسقاط النظام المصري، بوصفه "العدو القريب"، وبعدها يمكن التفكير في مجابهة "العدو البعيد" وفي المقدمة الولاياتالمتحدة وإسرائيل بعد أن تهاوى الاتحاد السوفياتي وانفرط عقد دول أوروبا الشرقية الشيوعية. ومن هنا كانت "الهجرة" خارج مصر تستهدف تحقيق "التمكن" الذي لم يكن من المتاح الوصول إليه في مصر نفسها، نظراً الى يقظة الأجهزة الأمنية وصرامة السلطة الحاكمة في التعامل مع أي جماعات خارجة على القانون، وبعد ذلك تأتي مرحلة "الفتح"، الذي يعني دخول أعضاء هذه الجماعات إلى مصر فاتحين على غرار الفتح الإسلامي الأول في محاولة إعادة إنتاج حدث تاريخي بشكل تبسيطي لا يخلو من سذاجة كبيرة، ومن ثم يمكننا فهم سر إطلاق تنظيم الجهاد على العناصر التي دفع بها إلى مصر في عقد التسعينات من القرن الماضي لاغتيال بعض رموز السلطة السياسية وضرب السياحة اسم "طلائع الفتح". لكن العوامل القديمة التي ساهمت في إيجاد مسألة "الهجرة" لم تلبث أن انعكست على هذا التفكير، وكان من الصعب أن ينسلخ الراديكاليون الإسلاميون المصريون تماما عن الأطراف التي ساهمت في تشكيل حركتهم إلى الخارج، وتحديدا إلى أفغانستان. ومن ثم ما إن خرجت القوات السوفياتية من هذا البلد ونشبت حرب أهلية بين فصائل "المجاهدين" حتى وجد "الراديكاليون الإسلاميون"، الذين انضووا تحت مسمى عريض هو "الأفغان العرب" أنفسهم موزعين على تكتيكات واستراتيجيات أطراف إقليمية ودولية، بعضها استخدم الفارين من قيادات الجماعات المتطرفة أوراقاً في يده يناور بها الحكومة المصرية، وفي مقدم هذه الأطراف تأتي الولاياتالمتحدة، التي تردد أنها أجرت اتصالات مع قيادات من "الإخوان المسلمين" و "الجماعة الإسلامية"، إبان فترة العنف الأخيرة والعصيبة التي مرت بها مصر، وامتدت من 1989 إلى 1997. وبعض هذه الأطراف عوّل على هؤلاء في تحقيق أهداف بعيدة المدى تخص إقامة "أممية إسلامية"، مثل ما هو حال السودان طوال عقد التسعينات. بالإضافة إلى ذلك استفاد بعض الفارين من بين أفراد "الجماعات الإسلامية" من قوانين اللجوء السياسي في دول أوروبا، وحصل كثيرون على فرص عمل في بلدان عربية خليجية وغير عربية، ووجد آخرون في بؤر الصراعات المسلحة، أو ما يطلق عليها "البؤر الملتهبة"، في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، والشيشان، وكشمير، وطاجيكستان، والفيليبين، مأوى بعدما أوصدت مصر أبوابها أمامهم، إثر صدور أحكام غيابية عليهم تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة، باعتبارهم ارتكبوا جرائم. وهذه الأحوال أدت إلى توزع الإسلاميين الراديكاليين المصريين، الذين ينتمون إلى مختلف التنظيمات والجماعات المتطرفة، على دول عديدة تنتمي إلى القارات الست تقريباً. منتفعين من التعاون مع أجهزة استخبارات تارة، ووجود عناصر قادرة على تزوير الأوراق الثبوتية كافة، وتوافر جهات قادرة على التمويل دوماً. وساهمت الطفرة الهائلة في وسائط الاتصالات في ربط هؤلاء جميعا بمراكز قيادة في الخارج، وعناصر قيادية داخل مصر نفسها، في حين ساهم التقدم الملموس الذي شهدته الأعمال المصرفية في إتاحة فرص كبيرة لتحويل الأموال وغسيلها، من أجل دعم عمليات إرهابية أو دفع مقابل لمتعاونين وأعضاء في هذه التنظيمات، أو الإنفاق على أسرهم سواء في الداخل أو في الخارج. كما وفرت شبكة "الإنترنت" وسيلة إعلامية رخيصة وسهلة أمام هذه التنظيمات لتصدر صحفها وبياناتها المتتالية، ولاستعمالها ما جادت به الحداثة في أعلى صورها. تمددت الحركة الإسلامية عموماً لتصبح جزءاًً من صور العولمة، واستكملت هذا "التعولم" بمنازلة أميركا في 11 أيلول سبتمبر في معركة، إن لم تكن متكافئة على الإطلاق، فإنها تظهر المستوى الذي وصلت إليه "الجماعات الإسلامية الراديكالية" في التنظيم والتخطيط والتنفيذ من جهة، والرغبة الواضحة في طرح نفسها بقوة على الخريطة السياسية الدولية من خلال "أجندة" موجهة أساساً ضد واشنطن ومعها تل أبيب، من جهة ثانية. وحتى عام 1997 لم تكن هذه الجماعات الراديكالية تعولمت سياسياً بالمعنى الدقيق لهذه المسألة، فهي كانت مهمومة بتحقيق مقصدها في إزاحة الحكومة، ولم يغب هذا المأرب عن أذهان قادتها، سواء كانوا في كهوف أفغانستان أو في جبال اليمن، أو في الشقق الفاخرة في أوروبا والولاياتالمتحدة ذاتها. لكن اشتراك أحد قيادات جماعة الجهاد وهو أيمن الظواهري في ما يسمى ب" الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين"، جعل هذا المقصد يقبل بجانبه مقصدا آخر وهو "قتال العدو البعيد" أي أميركا وإسرائيل وروسيا خصوصاً، وذلك مع فشل العناصر التي أرسلها تنظيم الجهاد في النيل من تماسك النظام المصري بالتوازي مع فشل العمليات الإرهابية كافة التي نفذتها عناصر محلية في دفع هذا النظام إلى الانهيار أو التسليم، كما كان قادة هذه الجماعات يتوهمون. وتحت راية الجبهة، المذكور سلفا، امتزجت أهداف الراديكاليين المصريين، أو تناغمت، مع أهداف أبعد كانت تدور في رأس قيادات راديكالية من دول عربية وإسلامية أخرى، جعلت من الولاياتالمتحدة "العدو الأول"، لإجبارها على سحب جيشها وعتادها من منطقة الخليج العربي، وإخراجها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي. ولم يكن تحول من هذا النوع صعباً على الإطلاق، نظراً الى أن "الأفغان العرب" عموماً، ليسوا سوى نتاج لصراعات عالمية، أيديولوجية واستراتيجية، أكسبتهم خبرة عميقة نسبياً في التعامل مع قضايا تتعدى حدود أقطارهم، وغذت لديهم ميلاً، تنامى باستمرار، إلى إيجاد "أممية إسلامية". وعبرت أدبيات الراديكاليين الإسلاميين وتصريحات قادتهم، اعتبارا من النصف الثاني من عقد التسعينات من القرن الماضي، بوضوح وجلاء عن هذا التوجه الجديد، ثم جاءت تحركاتهم لتؤكد هذا، إذ إنها اخترقت حدود الدول القومية وساحت في عالم جغرافي تخيلي ينتهي عند نقاط التماس الملتهبة في العالم الإسلامي، ويعيد إنتاج التصورات الأكثر شمولية التي تحدثت عن دولة إسلامية تمتد من غانا إلى فرغانة، لكن هذه المرة، ليس بطريقة دعوية كما اعتادت تيارات إسلامية عديدة طيلة القرن الأخير، بل بشكل حركي عنيف، لا يقف عند حدود الأمنيات، ولا يعترف بالتغلغل البطيء السلمي المدروس الذي انتهت إليه حركات إسلامية أممية مسيسة مثل "الإخوان المسلمين، أو غير مسيسة مثل جماعة "التبليغ والدعوة" . ومع ذلك يصعب التسليم تماماً بأن الطابع الأممي للجماعات الراديكالية الإسلامية المصرية صنيع السنوات الخمس الأخيرة فقط، فهو يشكل جزءاً من خطاب هذه الجماعات منذ زمن، تمحور حول ثلاث قضايا رئيسية، هي "الخلافة" و" الجهاد" و" العلاقة مع الغرب". لكن على المستوى العملي قاد ترتيب الأولويات لدى هذه الحركات إلى جعل تغيير الوضع الداخلي قسراً هو القاعدة الأساسية للانطلاق إلى بناء أنماط عدة من التعاون مع الحركات الإسلامية في بلدان عربية وإسلامية أخرى لإسقاط الأنظمة "العلمانية" الحاكمة، ومد يد العون، المادي والمعنوي، إلى الأقليات المسلمة في مختلف البلدان. ثم أخيراً النظر إلى العالم "غير المتأسلم" على أنه "دار حرب"، يستوجب إحياء "الفريضة الغائبة" في مواجهته، وهي الجهاد. ومعنى هذه أن النظرة "عابرة القوميات" في خطاب الحركة الإسلامية الراديكالية المصرية وقفت عند حدود التصور الأيديولوجي العام، ولم تترجم إلى حركة في الواقع المعيش سوى عام 1995، حيث وجه القضاء الأميركي اتهاماً إلى أمير "الجماعة الإسلامية" عمر عبد الرحمن بأنه تآمر ضد المصالح الأميركية، وتورط في الهجوم على مقر الأممالمتحدة في نيويورك ومباني عدة خاصة بالحكومة الفيديرالية الأميركية في المدينة ذاتها، والسعي إلى شن هجمات على منشآت عسكرية أميركية، والتخطيط لاغتيال الرئيس حسني مبارك أثناء إحدى زياراته للولايات المتحدة. وجاء حدث 11 أيلول سبتمبر ليظهر أن بعض هؤلاء الراديكاليين يشكل جزءاً من حركة عريضة تستخدم أهم ما ارتقته العولمة في مجالات الاقتصاد والاتصال والمعلومات، وترفض في المقابل ما تطرحه العولمة في مجال الثقافة، من خلال تمسكها الصارم بخصوصية وهوية "إسلامية" تضع الآخر الأمريكي في موضع العدو الثقافي والعسكري والسياسي. * كاتب مصري.