أونوريه دي بلزاك، هو أحد كبار الكتّاب الواقعيين في تاريخ الأدب الفرنسي، بل انه أستاذ الواقعية الاجتماعية الأكبر في آداب العالم قاطبة، تعلم الكثيرون على واقعيته. قلده الكثيرون. وكتبت عنه ألوف الدراسات تحلل أعماله الواقعية، وعلاقته بالمجتمع في زمنه، ناهيك بعلاقته بالسيكولوجيا الجماعية، كما بنفسيات أبطاله وعلاقاتهم. ولعل خير دليل يمكن أن يُلجأ اليه للتأكيد على هذا هو مجموعته الأساسية "الكوميديا البشرية" التي يدين لها الكثر، والتي تقدم ما لا يقل عن ألفي شخصية، في ألوف المواقف ومئات العلاقات، ما يضع القارئ مباشرة في صلب القضية الاجتماعية. كل هذا معروف، بالطبع، ولا يتوقف الباحثون عن التأكيد عليه والتمحيص فيه، الى درجة باتت معها دراسة واقعية بلزاك وتحليله للمجتمع جزءاً أساساً من الدراسات الأدبية والاجتماعية في فرنسا وفي أنحاء عدة من العالم. غير أن ما هو معروف أقل من ذلك، هو ان بلزاك كان، في الوقت نفسه، من رواد الأدب الخيالي، أو أدب الفانتازيا - ولنستعمل هذه الكلمة بلغتها الأصلية طالما ان جملة استخدامات عربية خاطئة لها جعلتها أليفة ولا سيما لجمهور التلفزة، من دون أن تؤدي هذه الألفة الى توضيح معناها -. فإذا كان بلزاك قد وصل الى القراء عبر عشرات الروايات الواقعية والاجتماعية المكتوبة بشكل متماسك وعبقري، فإنه عرف أيضاً كيف يصل اليهم عبر روايات فانتازية، لا تقل قوة عن تلك، بل تزيد عنها قيمة من حيث ترفيهيتها، ناهيك بقدرتها على كشف القدر الكبير من الخيال الذي كان يتمتع به هذا الكاتب الفذ. والحال أن بلزاك خاض هذا النوع الأدبي، خاصة عند بداياته، وتحديداً عن طريق اهتمامه بالأدب الأسود "على الطريقة الانكليزية" الذي أولع به باكراً وشاء محاكاته دائماً. ففي العام 1822، وكان كاتبنا لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره، وكانت "موضة" الكتابة الانكليزية آنذاك ترتكز الى حكايات الأشباح والخوارق الطبيعية، راح الكاتب الشاب ينكب بوفرة على محاكاة تلك الكتابة، أحياناً باسمه الصريح وأحياناً مستخدماً أسماء مستعارة. ولسنا في حاجة الى القول هنا أن بلزاك عاد ودمج العديد من نصوص تلك المرحلة في "الكوميديا البشرية"، كما ان العديد من الروايات التي تشكل جزءاً من هذه، أتى يحمل سمات من رواياته أو قصصه الأولى. ومهما يكن من الأمر فإن بلزاك كان عليه أن ينتظر العام 1830، قبل أن يعرف المجد الحقيقي الذي أسبغه عليه إقبال الناس على روايته الكبيرة الأولى "المجلد المحبب" التي ما ان نشرها حتى بدأ يخطط على الفور لكتابة رواياته "الفانتازية" التالية، التي يمكن ان نختار منها، على سبيل الاشارة، ثلاثة هي "لوي لامبير" 1832 و"البحث عن المطلق" 1834 و"سيرافينا" 1835 باعتباره الأكثر تمثيلاً ليس فقط لكتاباته تلك المرحلة، بل أيضاً لاستخدامه البعد "الفانتازي" حتى في أعماله الواقعية التي طفق يكتبها خلال الأعوام العشرين التالية. ويقيناً ان في الامكان ضم "الجلد المحبب" الى هذه الروايات الثلاث لفهم ما لدى بلزاك من اهتمام بالأدب "الفانتازي". تقوم فكرة "الجلد المحبب" الكلاسيكية - في ذلك الحين - على قطعة من هذا الجلد يبيعها تاجر الى شاب يائس من الحياة مبلغاً اياه ان من خصائص هذا الجلد انه يحقق كل رغبات صاحبة وأمانيه، لكنه في كل مرة يحقق فيها أمنية يتقلص بعض الشيء... وبعد ان يفرح الشاب بما يملك لوهلة، يجد نفسه وقد عاد الى كآبته وبأسه ويموت في نهاية الأمر من دون أمل. إن الدرس هنا واضح: ان أحداً منا لا يمكنه أن يفلت من مصيره سواء انتمى الى عالم النور أو الى عالم الظل. وفي رواية "لوي لامبير" التي يصفها غوستاف فلوبير بأنها رواية "عن رجل يصاب بالجنون لكثرة ما يفكر بالأمور غير الطبيعية أو غير المعقولة"، يتناول بلزاك مصيراً آخر هو هذه المرة مصير رجل أعماه النور الهائل الذي يبعثه في المرء فهمه المبالغ للكون... وهنا في هذه الرواية، يهتم الكاتب بأن يعرض لنا، فصلاً بعد فصل، الظواهر غير الطبيعية وأسلوب تلقي الناس لها، من دون ان يحدد لنا إذا كان هو نفسه يؤمن بها أم لا. أما في رواية "سيرافيتا" فإنه يعود الى موضوع كان كثر من الكتّاب قبله قد تعمقوا فيه، وهو موضوع اتحاد الذكورة بالأنوثة في الجسد الواحد. أما رواية "البحث عن المطلق" فإنها عمل يتناول فيه بلزاك من جديد موضوعة البحث عن النور في عالم الظل والكلمة... وهنا في هذه الرواية يطالعنا "بطلها" بالتازار كلايس الذي يبدد كل الأرث الذي تركه له أهله، خلال بحثه عن المطلق المتمثل لديه في مبدأ الوحدة بين المواد والعناصر... لكن صاحبنا لا يصل الى أية نتيجة في نهاية الأمر، لأن بلزاك يريد ان يقول لنا هنا أن أحداً من البشر الفانين لا يمكنه أن يلعب بأسرار الكون. وإذا كانت تلك هي الأعمال الرئيسة لبلزاك التي صاغها في قوالب "فانتازية"، ولكن دائماً انطلاقاً من أفكار واقعية، أو أفكار يوصلها الى الواقعية بعد تردد، فإن المناخ "الفانتازي" نجده لديه في العديد من الكتابات الأخرى، مثل "اكسير الحياة الطويلة" 1830 و"السفر المجهول" وفيها يطالعنا فنانان وهما يتناقشان بحدة وعمق حول لوحة لا تمثل شيئاً، بل حرص رسامها على أن يوصل فيها تصويره للمطلق، الى أبعاد لانهائية. وفي هذا الاطار أيضاً يمكن ان نذكر أعمالاً أخرى لبلزاك مثل "كوميديا الشيطان" 1831 و"الحلمان" 1830 وفي هذه الأخيرة يطالعنا شبح كاترين دي مديسي وقد أتى ليشير على روبسبيير بما عليه أن يفعل. والغريب في الأمر أن بلزاك نفسه حرص على أن يصنف هذه الأعمال ضمن خانة في مساره الأدبي اطلق عليها اسم "دراسات فلسفية" مفسراً انه انما جمع هذه الأعمال التي تلامس الظواهر الغربية، من بعيد أو من قريب، لأنها معاً "تقود قارئها الى عوالم أحلام اليقظة الفلسفية". وهذا ما جعل كثراً من الباحثين يقولون ان غاية بلزاك لم تكن، في نهاية الأمر، سوى حث قارئه على التفكير والتأمل من خلال هذه الأعمال، مميزاً بهذا موقفه عن موقف الكتّاب الغرائبيين الانكليز الذين، في رأيه، كان همهم الأساس "التلاعب بأفكار القارئ وأعصابه" من خلال تفاعله مع أعمالهم. وأونوريه دي بلزاك، الذي ولد العام 1799، ورحل العام 1850، هو، طبعاً، أحد مؤسسي الحداثة الأدبية في فرنسا وغيرها، بدأ حياته بدراسة المحاماة لكنه لم يمارسها، مفضلاً خوض الحياة الأدبية ليكتب طوال نصف قرن - هي عمر مساره الأدبي" تقريباً - عشرات ألوف الصفحات في شتى المجالات. ولئن كانت "الكوميديا البشرية" جمعت نحو ثمانين من رواياته فإنها لم تكن كل ما كتب، بل جزء من ارث أدبي طويل يمكن هنا احتساب الأدب الغرائبي جزءاً أساسياً منه.