إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    حراك شامل    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    هتان السيف.. تكتب التاريخ في الفنون القتالية    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    مستقبل الحقبة الخضراء    فوائد صحية للفلفل الأسود    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    الهلال ينتصر ودربه «سالم» أمام النصر    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    البدر يضيء قاعة المركز الحضاري ببريدة    رئاسة السعودية للقمة العربية 32.. قرارات حاسمة لحل قضايا الأمة ودعم السلام    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    وقاية.. تقصّي الأمراض الخطرة وإعداد خطط الطوارئ    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    "الخطيب": السياحة عموداً رئيسيّاً في رؤية 2030    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    صفُّ الواهمين    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التتابع الزمني للاجراءات الادارية والاقتصادية بعد الهجرة الى المدينة . صلح الحديبية وفتح مكة واخضاع قريش وبدء توحيد جزيرة العرب 2 من 3
نشر في الحياة يوم 08 - 01 - 2001

تناولت الحلقة الأولى السنوات الخمس بعد الهجرة الى المدينة، وفيها تم تأسيس المسجد مركز الدولة واعلان الدستور وبدء الغارات على حلفاء قريش وخطوط التجارة.
وهنا الحلقة الثانية.
السنة السادسة للهجرة
كانت السنة السادسة للهجرة بداية تحول في موازين القوى. فالقوة المسلمة لم تعد صغيرة وضعيفة ومعزولة كما كان الأمر في مكة قبل الهجرة، بل تحولت في فترة قصيرة الى جيش منظم اكتسب خبرات قتالية وبات في وضع يسمح له بنقل اسلوب المواجهات من الغارات الغزوات الى الحرب الشاملة. ففي أقل من ست سنوات تحولت الجماعة الأولى الى دولة نجحت في تشتيت قوات الخصم وأضعفت شوكته وزعزعت استقراره وقطعت عنه شرايين التجارة التي كانت تمده بالقوت والقوة. بدأت السنة السادسة بغزوة بني لحيان أعقبها رد غزوة ذي قَرَد حين أغار المشركون على سرح الرسول صلى الله عليه وسلم فانهزموا وغنم المسلمون الابل والرماح وقُسمت، وفيها أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل في آن لأنه قاتل فارساً وراجلاً. وفي شعبان جرت غزوة بني المصطلق من خزاعة فانهزم المشركون وسقط منهم الكثير من الأسرى فكانت بعدها المصاهرة التي اعتقت أكثر من مئة بيت من أهل بني المصطلق.
استمرت قوة المسلمين في التعاظم. وتعاظم معها موقع دولة المدينة حين تحولت الى نواة صلبة من الصعب تطويقها أو كسرها. وعلى موازاة ذاك التطور أخذ ميزان القوى الداخلي يميل لمصلحة المهاجرين بعدما كانت كفة الانصار هي الراجحة في البدايات. فللمرة الأولى بات المهاجرون هم الأكثرية نتيجة انضمام مئات العناصر من مختلف القبائل والبطون الى الدعوة وهو أمر ساهم في تركز القوة القائدة في المدينة وفتح طريق العودة الى مكة.
أدركت قريش أن دورها كقبيلة قائدة تراجع الى الحد الأدنى وانفك عنها عقد القبائل الصغيرة والحليفة فهي لم تعد في وضع يسمح لها بالدفاع عن مواقعها وأنصارها بعد فشلها في الهجوم على المدينة. وأدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن قريش تراجعت الى نقطة باتت معها جاهزة للتفاوض والقبول بالأمر الواقع. وتأسيساً على التحول المذكور أمر بإعداد العدة والخروج الى مكة لزيارة البيت على رأس جماعة من المهاجرين والأنصار اختلف المؤرخون في تقدير حجمها بين 1300 و1500. لم يكن هدف الخروج الحرب بل القيام بالعمرة وهو أمر فهمت قريش مغزاه. فالدخول الى مكة يعني اضعاف شوكتها وهزّ هيمنتها على البيت الحرام. وكان عليها الاختيار: الحرب لمنع المسلمين من الزيارة أو المصالحة وقبولها الزيارة سلماً. مالت قريش الى خيار السلم لأنه أفضل من الهزيمة في الحرب، وبدأت ترسل الوفود للاستطلاع وللاستفهام بحثاً عن مخرج للمأزق حين وصلت طلائع المسلمين الى مهبط الحديبية وانتظرت تترقب الوقت المناسب للقرار الأخير.
بدأت مفاوضات الصلح. فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان للتشاور مع سادة قريش، وبعثت قريش سهيل بن عمرو ليصالح المسلمين فتم الأمر واصطلحا على وقف الحرب لمدة ثلاث سنين على شرط أن يترك للناس حرية الاختيار، فمن أحب أن يدخل عهد رسول الله دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل. فدخلت خزاعة مثلاً في عهد الرسول وكنانة بنو بكر في عهد قريش. وشهد صلح الحديبية جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين.
شكل الصلح مع قريش نقطة تحول في توازن القوى. فالكتاب بين الفريقين يشير الى تعادل الكفتين بينما هو في الواقع بداية تراجع قريش أمام نمو القوة الجديدة المنظمة والمجهزة والموحدة عقائدياً والمنتشرة في آن في مختلف القبائل والبطون والأفخاذ العربية. وبسبب وعي القوة الجديدة لموقعها ودورها انتشر الاسلام بعد الصلح انتشاراً فاق كل السنوات الماضية واخترق قريش من كل الجهات واستقطب منها ومن غيرها خيرة الشباب والرجال وأشجع العناصر المقاتلة بين السنة السادسة توقيع الصلح والثامنة فتح مكة. الى الهدنة الموقتة أعطى الصلح فرصة للنشاط العقائدي في أوساط القبائل وخفف عن المسلمين أعباء الحرب الأهلية والداخلية مع قريش وأفسح المجال للاتصالات فتفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم لتنظيم شؤون الدولة ونشر الدعوة سلماً.
ورافقت فترة الهدنة نشاطات عسكرية اقتصرت على توجيه ضربات خاطفة لقبائل ضعيفة غير محسوبة على قريش ولم تدخل في الاسلام. فوجه من مكان اقامته في المدينة سرايا عدة منها واحدة الى العُمق، وثانية الى بني ثعلبة، وثالثة الى ذي القصة، ورابعة الى الجموم وبني سُلَيم فأصابوا نعماً وشاء وأسرى، وخامسة الى العيص وفيها أخذت الأموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، وسادسة الى الطّرَف بني ثعلبة فأصابت الغنائم، وسابعة الى حسمى، وثامنة الى الفضافض فجمعت ما وجدت من مال، وتاسعة الى وادي القُرى، وعاشرة الى دومة الجندل فأسلموا. وتعددت أنواع السرايا سلماً وحرباً فكانت سرية الى فدك والى أم قِرْفة، إضافة الى غزوة فزارة، وغزوة العرينيين.
الى السرايا العسكرية، وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كتبه الى زعماء الأقوام والقبائل والملوك والقياصرة يدعوهم الى الاسلام. أرسل الى قبيلة جذام فأسلموا وأرسل الى أهل اليمن فأسلموا وتمردوا على حكم الفرس، وأرسل الى ملك اليمامة، وأرسل الى والي البحرين المنذر بن ساوى فأسلم ومعه جميع العرب بينما صالح أهل الكتاب والمجوس على الجزية من كل بالغ دينار.
وأشهر الكتب كانت تلك التي أرسلها الى كسرى، وقيصر، والنجاشي، والمقوقس، والحنفي، والغساني الغساسنة. فحمل حاطب بن أبي بلتعة كتابه الى المقوقس في مصر، وحمل شجاع بن وهب الأسدي كتابه الى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأرسل دحية الى قيصر، وسليط بن عمرو العامري الى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري الى النجاشي، والعلاء بن الحضرمي الى البحرين.
وبغض النظر عن اختلاف استقبال الرسل والكتب بين قابل النجاشي ومتردد المقوقس وخائف قيصر وشامت كسرى وبين من قبل الإسلام هو وقومه أو وافق على الصلح مقابل الجزية فإن كل تلك الاتصالات تعكس حالات من توازن قوة أخذت تتعدى إطار الجزيرة وتتجه نحو دول الجوار. وكل ذلك قبل سنة من فتح مكة وبعد سنة من صلح الحديبية.
السنة السابعة
استقر المسلمون في المدينة وانتشر الاسلام في الجزيرة، فدخلت الدعوة عشرات القبائل الصغيرة وانضمت اليها خيرة الرجال والنساء، فاكتشفت قريش انها خسرت المبادرة حين بدأ شبابها يلتحقون بالقوة الصاعدة وينضوون تحت رايتها، وأدركت ان هدنة السنوات الثلاث كافية لاستيعاب مختلف قبائل الجزيرة وعزلها عنها بعد تفريغها من قواتها المقاتلة.
جاءت السنة السابعة بالمزيد من الأخبار السارة للمسلمين والمقلقة لقريش. ففي تلك السنة بدأ المسير الى خيبر على رأس جيش مؤلف من 1400 مقاتل و200 فارس. ونزل الجيش في منطقة الرجيع لعزل أهل خيبر عن قبيلة غطفان لمنع تعاونهما عسكرياً. ونجحت الخطة العسكرية فعزلت غطفان وحُوصرت خيبر وضيقوا عليهم الطوق وفتحت حصناً حصناً. فكان الأول حصن ناعم، ثم القموص حصن بني أبي الحُقيق، ثم الصعّب، والوطيح، والسلالم. وانتهى الحصار بسقوط خيبر وطلب أهلها ان تحقن الدماء مقابل مقاسمة الأموال على النصف وأن يخرجهم إذا شاء، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم الى ذلك. وقاسم المسلمون نصف الأموال وأخذوا كل الحصون الستة.
خاف أهل فدك على مصيرهم حين وصلتهم أخبار خيبر فأرسلوا يطالبون بالصلح نفسه أي أن يسيّرهم ويخلوا الأموال فتم الاتفاق على الأمر. فكانت خيبر فيئاً للمسلمين وكانت فدك خالصة للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب.
بعد خيبر وفدك انصرف المسلمون الى وادي القرى فحاصروه وافتتحوه عنوة وتركوا النخل والأرض في أيدي أهل الوادي وعاملوهم نحو ما عاملوا أهل خيبر. فأموال خيبر قسمت وكانت خُمس لله والرسول وسهم لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وقسمت خيبر على أهل الحديبية وأعطى الفارس سهمين والرجل سهماً وأقر أهل خيبر في خيبر الى أن أجلاهم الخليفة الراشد الثاني. بينما تمت مصالحة أهل فدك على نصف الأرض وكان نصف فدك خالصاً للرسول يصرف ما يأتيه منه على أبناء السبيل. وبقي أهل فدك الى أن أجلاهم الخليفة الثاني بعد أن قوّم نصف أرضهم بقيمة عدل.
بعد هذه الغزوات أرسل سرايا عدة أغارت على هوازن، وبني مرة في فدك، وأرض بني مرة، وبني عبد بن ثعلبة، ثم الى اليُمن والجَناب غطفان فأصابوا نعماً جلبوها الى المدينة.
راكمت هذه الغزوات والغارات قوة المسلمين فباتت جاهزة للمزيد من الفتوحات لنشر الدعوة في مختلف انحاء الجزيرة وخارجها. وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة القيام بالعمرة، وهي عمرة القضاء، برفقة 70 بدنة ناقة للذبح وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته الأولى التي انتهت بصلح الحديبية. وهدفت هذه العمرة اختبار نيات قريش وأهل مكة، فما كان منهم إلا أن خرجوا عنه واصطفوا له عند دار الندوة مقر قريش فأيقن انهم غير جاهزين لقبول الدعوة. فأقام ثلاثة أيام وعاد الى المدينة وقرر بعث الجيش الى مؤتة وارسال سرية للغارة على بني سُليم.
السنة الثامنة
أظهرت عُمرة القضاء اختلال موازين القوى لمصلحة الاسلام. فقريش عاندت لكنها لم تمنع الزيارة، فهي لا تقوى على مقاومتها لذلك فضلت الانكفاء الى دارها الندوة وتركت الأمور تسير من دون عرقلة. بينما اختلف الأمر في جبهة الاسلام. فدولة المدينة تحولت الى محط انظار قبائل الجزيرة التي أخذت تزحف واحدة بعد أخرى للمبايعة على الاسلام أو المصالحة على الجزية. وأرسلت في السنة الثامنة سرايا أغارت على بني الملوّح، وعلى بطن الكديد، وعلى بني عامر، والى ذات الاطلاع قبيلة قضاعة من ناحية الشام. وفي صفر من هذه السنة حصل أكبر تحول في موازين القوى حين أسلم ثلاثة من قادة جيوش قريش وهم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري. وشكل اسلام هؤلاء ضربة لقوات قريش وإضافة لقوة جيش المسلمين. فكلف الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بمهمة الى أرض بَليّ وعُذْره لدعوة الناس الى الاسلام، فوصل الى ماء في أرض جُذام يقال له السلاسل. فكانت غزوة ذات السلاسل وهي التي قاتل فيها للمرة الأولى أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح الى جانب عمرو بن العاص في جبهة واحدة ضد المشركين. بعدها أرسل ابن العاص الى قبيلة الأزد في عُمان فأخذ الجزية من المجوس وكانوا أهل البلد والعرب حولهم وأخذ الصدقة من أغنيائهم وردّها على فقرائهم.
وكانت في السنة الثامنة غزوة الخَبَط بقيادة ابن الجراح، وسرية الى ابن رفاعة بطن من جُشَم، وغزوة الى إضَم. وأهم تلك الغزوات كانت غزوة مُؤتة بقيادة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة. خطط الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الغزوة مؤتة في السنة السابعة وبعثها في السنة الثامنة وكانت أول مواجهة فعلية مع الجيش البيزنطي بقيادة هرقل. تألف جيش المسلمين من ثلاثة آلاف وسار الى مُعان على تخوم الشام والجزيرة. وبلغ جيش البيزنطيين وأعوانهم من المستعربة من قبائل لخم وجُذام وبلقين وبليّ أكثر من مئة ألف والتقت في قرية مشارف في البلقاء، وتقدم المسلمون الى مؤتة وحصلت مواجهة فاستشهد الثلاثة تباعاً زيد ثم جعفر ثم عبدالله. فأخذ الراية ثابت بن أرقم الأنصاري واقترح ان تسلم الى خالد بن الوليد فاتفقوا على ذلك فأخذها وعاد بالناس الى المدينة. وسمي خالد بن الوليد منذ ذاك ب"سيف الاسلام". كانت معركة مؤتة أول اختبار للمواجهات اللاحقة مع البيزنطيين فهي أسست قاعدة الانطلاق للفتوحات وفتحت الطريق أمام انتشار الاسلام في بلاد الشام.
لم تحصل غزوات كبرى بعد مؤتة. وشهدت الجزيرة فترة استقرار وجيزة لم تتجاوز الشهرين الى أن هاجمت قبيلة كنانة في عهد قريش قبيلة خُزاعة في عهد الدعوة بدعم من قريش بالرجال والسلاح والدواب بذريعة الأخذ بثأر قديم. وتراجعت خزاعة الى الحرم وقتل منهم نفر. اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم فعلة قريش ومشاركتها بكر من كنانة لمحاربة خزاعة نقضاً للعهد الذي تم الاتفاق عليه في صلح الحديبية، فنصر خزاعة وأعد العدة. اكتشفت قريش انها ارتكبت حماقة وحاولت تمديد العهد وتجديد الصلح فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم وعزم على فتح مكة وأمر الناس بالتجهز ومضى على رأس جيش في عشرة آلاف مقاتل الى أن تم الأمر في العشر الأخير من رمضان.
لم تُفتح مكة الا بعدما انقلبت موازين القوى لمصلحة الدعوة. فالانعطافة التاريخية جاءت في سياق تطوري تدرجت فيه قوة المسلمين من أقلية ضعيفة معزولة الى غالبية كبرى طوقت قريش وأضعفت تحالفاتها ومواردها وأخذت بتفكيكها من الداخل. وحين حاولت قريش تعديل مجرى التطور أخطأت في حساباتها فنقضت العهد ودارت الدائرة عليها، وكان عليها بقضها وقضيضها ان تدخل الدعوة طائعة ومختارة مقابل العفو عنها. لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وقف على باب الكعبة، وقال "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". فعفا عن قريش وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وطاف بالكعبة سبعاً ودخلها وصلّى فيها وأمر الناس بإزالة الصور وتحطيم الأصنام 360 صنماً. واجتمع الناس لبيعته فبايعهم على السمع والطاعة فكانت بيعة الرجال وتلتها بيعة النساء. وجاء وقت الظهر فأمر بلالاً أن يؤذن على ظهر الكعبة كعلامة من علامات العهد الجديد.
بعد الفتح تواصلت الغزوات في السنة نفسها، فكانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فحاصرهم وقتل بعضهم بعد أن سلم سلاحه، فغضب الرسول وأرسل علي بن أبي طالب ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم فودي لهم الدماء والأموال. واعتذر خالد وقال: انه فعل من الجاهلية لا الاسلام. فتحولت الوقعة الى سنة اتبعها المسلمون في كل فتوحاتهم الكبرى. فمن طلب الصلح يصالح من دون قتال، ومن يقاتل يقاتل حتى يطلب الصلح.
وعلى موازاة المعارك واصل المسلمون هدم الأصنام فهدم خالد بيت العُزّى في بطن نخلة وكانت تعظمه قريش وكنانة ومضر. وهدم عمرو بن العاص صنم سُواع في رهاط لقبيلة هذيل، وهدم سعد بن زيد الأشهلي صنم مناة في المُشلّل.
حين وصلت أخبار فتح مكة وهزيمة قريش تحركت قبيلة هوازن تستعد للقتال بقيادة مالك بن عوف. فهوازن أرادت أن تستبق الأمر فتضرب قبل أن تُضرب فتوجهت بقواتها الى وادي حُنين. واستعد المسلمون وقاد الرسول جيشاً من 12 ألفاً فكمنت له هوازن ونجحت بداية في تشتيت جيش المسلمين إلا نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وأُعيد تجميع القوات وحصل اقتتال شديد انتهى بهزيمة هوازن وتراجعها وتشتيت قواتها وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا وجُمعت في الجعرانة.
لم تقسم غنائم هوازن لأن المعركة لم تنته إذ تراجع المنهزمون من ثقيف وغيرهم الى الطائف وتحصنوا في المدينة. وسار اليهم جيش المسلمين وحاصرهم أكثر من 20 يوماً واستخدم اسلحة جديدة كالمنجنيق وناقلة جند دبابة فوصلت جدار الطائف وتراجعت وكاد الحصار العسكري أن يفشل لو لم يثمر الحصار الاقتصادي حين قطعت أعناب ثقيف، فاستسلمت الطائف وبدأ أهلها يدخلون الدعوة.
أعطت موقعة حُنين وهزيمة هوازن وحصار الطائف واستسلام ثقيف دفعة جديدة للاسلام في الجزيرة العربية إذ ساعدت قسمة الغنائم على تقوية الشوكة وتركز القوة واندفاعها من جديد.
اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الطائف الى الجعرانة قسمة مختلفة لغنائم حُنين آخذاً في الاعتبار الأفواج الجديدة التي دخلت الدعوة. فكان لا بد من ملاحظة نصيبها من الأسهم حتى يزداد حماسها وتقبل المشاركة في المعارك والمواجهات المقبلة. فأتته وفود هوازن بعد أن أشهرت اسلامها، وخيرهم بين ابنائهم ونسائهم وبين أموالهم فاختاروا أبناءهم ونساءهم. وتنازل الرسول ما كان له ولبني عبدالمطلب لهم، وتنازل المهاجرون والأنصار ما كان لهم للرسول. وتنازلت سُليم لما كان لها للرسول. ولم تتنازل تميم وفزارة وتمسكت بما لها. فقال: من تمسك بحقه من السبي فله بكل انسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم. وأسلم زعيم هوازن مالك بن عوف فرد عليه أهله وماله وأعطاه مئة بعير.
وطالب الناس باقتسام الفيء بعد رد سبايا هوازن، فرد عليهم خُمسه ثم أعطى المؤلفة قلوبهم 11 شخصاً وهم من أشراف الناس كل واحد مئة بعير، وأعطى ما دون المئة بعير خمسة رجال. اعترض بعض الأنصار، ومنهم الخويصرة التميمي، على هذه القسمة بسبب عدم ادراكهم للتحولات وانتقال الاسلام بعد فتح مكة وسقوط الطائف وهزيمة قريش وهوازن وثقيف من دولة المدينة الى دولة الجزيرة وباتت القسمة تشمل قريش وقبائل العرب. وحين أوضح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الصورة وتطورها منذ الهجرة الى حينه وشرح لهم لماذا تنازل عن خُمسه وأعطى المؤلفة قلوبهم، اقتنعوا بالقسمة وتفرقوا.
* كاتب من أسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.