مبدأ "الطرف الثالث" في معادلات البحث عن صيغة للسيادة على المواقع الدينية في القدسالشرقية بات مقبولاً لدى الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، نظرياً على الأقل، وكغيره من الصيغ انه في انتظار التفاصيل التي تقرر مصيره. الأممالمتحدة بدأت الاستعداد لدور توافق اسرائيل الآن عليه للمرة الاولى منذ عام 1948 علماً بأنها استبعدت كلياً أي دور سياسي للمنظمة الدولية في شأن القضية الفلسطينية، ويرى الأمين العام في هذا الموقف تطوراً مهماً وفرصة فريدة خصوصاً أن الطرف الفلسطيني أراد دوماً دوراً للمنظمة الدولية التي تمسك بقراراتها كمصدر أساسي للشرعية. مفيد جداً ان تدخل الأممالمتحدة طرفاً مباشراً في البحث عن الصيغة المقبولة وأن تلعب الأدوار التنفيذية التي توافق عليها الأطراف المعنية شرط ألا تدع تشوقها للبناء على الموقف الاسرائيلي الجديد يحولها الى مساهم آخر في بوتقة الذين يحذرون الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بأن هذه فرصة العمر التي لن تتكرر، فيتم تجنيدها للضغط بدلاً من المساهمة الفعلية في الأفكار الخلاقة. ترحيب رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك بدور للأمم المتحدة يدخل في سلسلة الايجابيات في تطور المواقف الاسرائيلية وفي الاختراقات النفسية التي حققها باراك في المجتمع الاسرائيلي واليهودي العام. هذه السلسلة تشمل إقراره بضرورة الانسحاب من جنوبلبنان حتى مهزوماً وكسر الجدار النفسي الذي غُلّفت فيه القدس بطرحه القضية على بساط الأخذ والعطاء. ايهود باراك ملفت في تناقضاته، إذ انه الرجل الذي فوّت فرصة البناء على الولاية التي أوكلها اليه الاسرائيليون عند انتخابه بسبب تقاعسه، وهو الرجل الذي يأخذ الاسرائيليين واليهود عموماً الى ابعاد جديدة ويجرؤ على كسر المحرمات. قد يكون الرجل الذي أساء قراءة المجتمع الاسرائيلي عندما تلكأ، ثم استدرك. ولهذا فإنه اليوم، في اقدامه، ينطلق من دقة قراءة الفكر والذهن الاسرائيليين الجاهزين للتنازلات. قد يكون الرجل الذي يرى ان مصلحة اسرائيل تقتضي ان يوقظ المجتمع الاسرائيلي الى الحقائق ويتحداه لعبور جدار المحرمات. أياً كان الدافع، فإن المجتمع الاسرائيلي في نقطة انعطاف وعليه أن يقرر ماذا يريد حقاً. فإذا كانت الأكثرية في الرأي العام جاهزة للقرار، يجب أن توضح تحالفها مع باراك وتجرؤ على تشجيعه على قرارات صعبة هي في مصلحة اسرائيل في نهاية المطاف. اما إذا كانت مترددة، فإنها تغامر بمستقبل مظلم لاسرائيل. فانهيار العملية السلمية وحال اللااستقرار ليسا سيئين حصراً للطرف الفلسطيني، كما يروّج البعض، وانما يهدد الطرف الاسرائيلي في الصميم بسبب التداخل الفلسطيني - الاسرائيلي. فمعركة باراك ليست فقط مع حزب ليكود أو مع اليمين المتطرف وانما هي أيضاً مع حزب العمل وامثال شيمون بيريز الذين يزعمون الاستعداد لاختراقات تاريخية وينددون اليوم بموافقة باراك على طرح القدس في غير اطار "القدس الموحدة عاصمة اسرائيل الأبدية". معركته أيضاً مع نفسه وتناقضاته، فهو يوازن بين حسابات مستقبله السياسي وبين رغبته في أن يكون حقاً قائداً. ولأنه في هذه المعركة، تطرح أطراف عديدة المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية من منطلق "ظاهرة" باراك بصفتها الفرصة النادرة امام الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فتلعب لعبة الشخصيات لاستصدار التنازلات وتدخل في متاهات اللوم والانذار والتحذير كوسيلة في المساومات. وهذا بالذات ما يجب على الأمم التحدة ان تتجنبه وهي تدخل حلبة البحث عن صيغ خلاقة كمخرج من ازمة "السيادة" ومفهومها الى اتفاق تاريخي بين الفلسطينيين والاسرائيليين. اتخذ دخول الأممالمتحدة طرفاً طابعاً عملياً اذ بدأت الدائرة القانونية في وضع الدراسات، كما طلب الأمين العام كوفي انان من ممثله في عملية السلام، تيري رود لارسن، ان يبدأ العمل على الملف. وزير الخارجية الاسرائيلي بالوكالة، شلومو بن عامي، أكد علناً رغبة اسرائيل في دور للأمم المتحدة، وأقطاب الادارة الأميركية المعنيين ابلغوا الأمين العام الرغبة في هذا الدور ايضاً. وطوال هذين الاسبوعين، جرت اتصالات بين وزراء الخارجية العرب والأمانة العامة، كما بين فرنسا، بصفتها رئيس الاتحاد الأوروبي، والأمانة العامة، بهدف صياغة خيارات "الطرف الثالث" وشكله في عملية السيادة. الطرف الاسرائيلي كان طرح في كامب ديفيد فكرة قيام مجلس الأمن بمهمات السيادة ورفضها الطرف الفلسطيني باعتبار مجلس الأمن هيئة تهيمن عليها "الفيتو" التي هي من حق الدول الخمس دائمة العضوية، ولا قول أو رأي لفلسطين فيها. هذا لا ينفي ان الفكرة الاسرائيلية المرفوضة فلسطينياً فتحت الباب على "طرف ثالث". الموقف الاسرائيلي أثناء مفاوضات كامب ديفيد، تمسك بالسيادة الاسرائيلية على ما تسميه اسرائيل "جبل الهيكل"، اي الحرم الشريف الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمربع الذي يجمعهما. ومنذ ذلك الحين تراجع الاسرائيليون عن هذا الموقف وباتوا يتحدثون عن سيادة، لا اسرائيلية ولا فلسطينية، على الحرم الشريف. الرئيس عرفات ايضاً فتح باباً على "طرف ثالث" عندما اقترح ان تكون السيادة اسلامية يتم تفويضها الى فلسطين. هذه الفكرة الفلسطينية المرفوضة بدورها اسرائيلياً جعلت البحث في مبدأ "طرف ثالث" قابلاً للاستطلاع وربما التنفيذ علماً بأن الموقف الرسمي الفلسطيني يصر على سيادة فلسطينية عملياً، ان جاءت عبر تفويض اسلامي، أو اسلامي - دولي، أو دولي. وما يتم البحث فيه مع الأممالمتحدة وداخلها لا ينطلق من دور لمجلس الأمن كالذي تصورته الطروحات الاسرائيلية، وانما من قيام مجلس الأمن ب "تكريس" ما يتم التوصل اليه من اتفاق على صيغة للقدس. وبين هذه الصيغ التي تبحث ان يقوم الأمين العام بتعيين هيئة من شخصيات عالمية مرموقة، بعناصر اسلامية قوية وغالبة، تشكل ما يسمى بgoverning body هيئة حكومية، لتكون الهيئة المكلفة مراقبة الأماكن المقدسة، بما يضمن حرية الوصول لجميع الديانات، وبما يؤدي الى "ميكانيزم دولي" يعطي الوقف الفلسطيني عملياً السيطرة كأمر واقع على الحرم الشريف وجبل الزيتون باعتباره من الأماكن المقدسة، فيما تمارس اسرائيل السيادة على حائط المبكى. فالفكرة الرئيسية ان تقوم هيئة ثالثة، بترتيبات تضعها المجموعة الدولية، وبشرعية تضفيها الأممالمتحدة، بمهمات "اللاسيادة"، فيما يوسَّع البحث من الحرم الشريف حصراً الى الأماكن المقدسة التي تشمل المدينة القديمة وجبل الزيتون ويعطى الوقف الفلسطيني سيطرة الأمر الواقع على الأماكن الاسلامية المقدسة. هذه أفكار لا تزال في طور الصياغة، ليس واضحاً اذا كانت مقبولة أو مرفوضة فلسطينياً أو اسرائيلياً. المقبول لديهما، وهذا واضح، هو دور ما لطرف ثالث ما. ولذلك، تجري المباحثات في الأممالمتحدة وتشارك فيها الديبلوماسية المصرية والفرنسية بنشاط علماً بأن الديبلوماسية الأميركية طرف أساسي. وتشعر الأمانة العامة بأنها في موقع مميز لأنها تتمتع بثقة الفلسطينيين والاسرائيليين ولأن الأممالمتحدة قاعدة الشرعية الدولية. كوفي انان فخور بتمكن الأممالمتحدة من الاشراف على تنفيذ القرار 425 الذي طالب اسرائيل بالانسحاب من جنوبلبنان من دون أي تفاوضات، وهو يرى ان القرار 242، الذي ينطوي أساساً على عنصر التفاوض، يفتح آفاقاً لدور فريد للأمم المتحدة خصوصاً ان اسرائيل ترحب بهذا الدور بعدما رفضته وقاومته لأكثر من خمسين سنة. طريقة تفاوض الأممالمتحدة مع اسرائيل اثناء تنفيذ القرار 425 سجلت لها الحنكة والحكمة السياسية، اذ تجنبت التورط في دور "الشاهد" على الخلاص الاسرائيلي من المأزق الذي نصبته اسرائيل لنفسها في لبنان. وفي وسع الأمانة العامة الآن أن تلعب دوراً فريداً، ليس بديلاً من الدور الأميركي وليس كمجرد حاشية، وانما كشريك في تلبية الاحتياجات الفلسطينية والاسرائيلية السياسية على قاعدة الشرعية الدولية وقراراتها. في هذا المنعطف، حصرت الادارة الأميركية الدور الموكل الى الأمانة العامة في البحث عن صيغة للسيادة على الحرم الشريف. وليست هذه المهمة، عملياً، سوى نقطة انطلاق. فالرزمة التي تشمل الحدود واللاجئين تعطي الأممالمتحدة أدواراً تطلقها من القفص الذي وضعتها فيه الادارة الأميركية. وهناك كلام عن قوات دولية، أو قوات متعددة الجنسية، تقوم بمهمات على الحدود وفي اطار السيطرة على الأماكن المقدسة في القدسالشرقية. كما ان هناك صيغاً تطرح في شأن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، يؤكد فيها هذا الحق من حيث المبدأ والشرعية في القانون الدولي، مع وضع هيئة دولية للقيام بمهمات التعويض وعودة جزء من اللاجئين بأعداد محدودة الى اسرائيل في اطار لمّ شمل العائلات. وهنا ايضاً دور للأمم المتحدة التي تولت عبر وكالة الانروا مهمات اغاثة اللاجئين الفلسطينيين. المهم للأمانة العامة ألا تسقط في فخ الغرور أو الثقة المفرطة بالنفس فيما تتوجه اليها الأطراف الآن لايجاد الصيغة السحرية الخلاقة. المهم لها ايضاً ألا تدخل طرفاً في تسويق "ظاهرة" باراك للضغط على عرفات وتحميله المسؤولية التاريخية. كوفي انان على اتصال بالقيادات العربية والاسلامية تلك التي تتبنى وجهة نظر ضد أي صيغ وترتيبات غير تلك التي تقرّ بالسيادة الفلسطينية على كل الأراضي التي احتلتها اسرائيل عام 1967 والتي ينطبق عليها القرار 242 بما فيها القدسالشرقية، وتلك التي ترى في الصيغ الخلاقة مصلحة فلسطينية في الصميم لأن رزمة الاتفاق في المصلحة الفلسطينية. لذلك، لا بد أن يدرك ان خصوصية دوره هي في تجنب تقنين اللوم والمسؤولية وفي استطلاع الآفاق التي تمكن كلاً من عرفات وباراك من تهيئة القاعدتين الشعبيتين للقرارات بحياكة خيوط التداخل بين الاعتبارات العملية والشرعية الدولية.