بعدما هدأت - موقتاً - عاصفة "وليمة لأعشاب البحر"، بتجميد حزب "العمل" وإغلاق جريدة "الشعب"، وتقديم الروائي الكبير ابراهيم أصلان وزميله الكاتب الشاب حمدي أبو جليل للنيابة، وبعدما انتشرت محاكمة الأدباء باسم الدين في أكثر من بلد عربي، نقول: بعد كل هذه الموجات العاتية من محاكمة الأدب والفكر باسم الدين والأخلاق الاجتماعية، ينبغي أن نقف وقفة متأملة حاسمة، نخرج منها ببعض الاستخلاصات الأساسية، التي يتوجب على النخبة المستنيرة في مصر والبلاد العربية أن تستمسك بها استمساكاً متيناً، حتى لا نظل ندور في دائرة جهنمية مفرغة، وحتى لا تذرونا الرياح المظلمة في السنوات المقبلة. وأوجز هذه الاستخلاصات الأساسية في النقاط التالية: 1 - إن النخبة العربية المستنيرة تحترم الأديان جميعاً - وليس الإسلام وحده - الاحترام الواجب باعتبارها مقدسات عقائدية ينبغي أن تصان في أرفع مكانة. والحاصل أن مثقفاً عربياً واحداً لم يصدر منه - طوال أزمة الوليمة وقبلها وبعدها - ما يمس هذه الأديان المقدسة، أيا كانت الايديولوجيا التي يتبناها ذلك المثقف. 2 - إن أحداً ممن يؤمنون بالديموقراطية إيماناً حقيقياً لا يمكن أن يقبل أن تصفى تلك العاصفة السوداء بمثل ذلك الحل الأسود، الذي تمثل في الإجهاز الإداري على حزب "العمل" وعلى جريدته "الشعب". وعليه، فإن الديموقراطيين الحقيقيين يستنكرون هذا العسف السطوي لثلاثة أسباب: الأول: من حيث المبدأ. فإذا كانت الديموقراطية لا تتجزأ، وكانت حرية الفكر لا تتجزأ، فإن دعاة حرية الفكر الذين وقعت عليهم المطارق التكفيرية لحزب العمل وجريدته يرفضون أن يُقمع حزب سياسي، حتى لو كان هذا الحزب ينافح - في قضية من القضايا - عن الباطل. الثاني: أن هذا الإجهاز الإداري السلطوي يعطل الحياة السياسية غير المحتاجة إلى مزيد من التعطل، ويصيب بالشلل ذلك القدر الضئيل والشكلي من التعددية الهزيلة التي نباهي بها بعض الدول! الثالث: أن قبول تدخل السلطة علوياً لحل الخلافات الفكرية والسياسية هو استنان لمبدأ خطير وإقرار لسابقة ملغومة، يمكن أن تستخدمها السلطة نفسها مع أحزاب وتيارات أخرى وأقصد الأحزاب والتيارات التقدمية والمستنيرة تحديداً، في لحظات تالية. وعلى ذلك، فإن العلاج الجذري، الصحي والصحيح، لتهوس حزب "العمل" وجريدته لم يكن - ولن يكون - الإيقاف أو الإلغاء الفوقي الملتوي، بل كان - ويكون - بأن تتجه السلطة ثلاثة اتجاهات مباشرة مستقيمة. أولها، هو أن تتيح لأهل حرية الفكر والاستنارة من غير موظفيها الوجود الواضح المعادل لوجود أهل السلفية والمحافظة في التلفزيون والإذاعة وغيرهما من وسائل الإعلام المؤثرة. بينما كانت كل التلفزيونات العربية والغربية تناقش العاصفة عبر التيارات المختلفة، كان التلفزيون المصري صامتاً صمت القبور، وكأن العاصفة هبت في بلد لا يعنيه!. وثانيها، هو أن ترفع عن كاهل الحياة السياسية تلك الباقة السيئة السمعة من القوانين المقيدة للحريات، وعلى رأسها قانون الطوارئ، وقانون تحريم عقد مؤتمرات جماهيرية لأحزاب المعارضة خارج مقارها، على النحو الذي أحالها إلى "أحزاب الغرف المغلقة". وثالثها، أن تبيح الحرية الكاملة لتكون الأحزاب السياسية بما في ذلك الشيوعيون والإسلاميون على أساس برامج سياسية محددة، فينتفي الكبت الذي يولد العنف والهستيريا والعمل في الظلام، وتنتقل حياتنا السياسية من "ديكور التعدد" الى التعدد الحقيقي، الذي يصبح فيه المواطنون هم الفصل والحكم. ونظراً لأن السير في هذه الاتجاهات الثلاثة، المباشرة المستقيمة، ذو ثمن باهظ يتوجب على السلطة دفعه، فإنها تختار اللجوء إلى الحلول الإدارية الفوقية القامعة، متوهمة أنها حلول سهلة رخيصة الثمن، من غير أن تعلم أنها حلول تجسد كارثة وتفضي إلى كوارث. 3 - إن حرية الفكر والإبداع هي أيضاً حق مبدئي من حقوق المواطن، فضلاً عن المفكر، ناهيك بالمبدع، وقد وضعت الأديان والمواثيق الدولية ودساتير الدول حرية الفكر والابداع في أعلى مكان، واعتبرتها "أم الحريات" بوصفها مفتاحاً للحياة، عند الفرد والمجتمع على السواء. ومن ثم، فإن حرية الفكر والابداع هي - كذلك - "مقدس" رئيسي من مقدسات أية أمة تريد أن تنهض وتتقدم، لا أن تتجمد وتمون وعليه، فإن كبح هذه الحرية هو "إساءة للمقدسات". 4 - إن محاكمة الإبداع بالمقاييس الدينية خلط رفضته الأديان نفسها، ورفضه الكثيرون من المفكرين والعلماء في تراثنا الإسلامي البعيد والقريب. وحتى لو لم يرفضه العلماء التراثيون فإن أمور معاشنا المعاصر توجب علينا ألا نقع في هذا الخلط. ولن نعيد هنا قول بعض النقاد القدامى إن شعر حسان بن ثابت كان قوياً في الجاهلية، فلما دخل الإسلام لان وضعف، وهو القول الذي يكاد يقرن جودة الشعر بالانحراف ويقرن رداءته بالاستقامة والانضباط. من هنا نقول: الحرية كل الحرية للإبداع. وليس من قاض أو رقيب على الابداع سوى ضمير المبدع، وتقويم الحركة النقدية، ورأي القراء. إن ذلك يعني أننا لا نرفض الرقابة الدينية فقط، بل نرفض كذلك الرقابة الإدارية أو المباحثية والبوليسية على السواء. لا نستبدل رقيباً برقيب، ولا وصاية بوصاية. وهنا، يلزم أن أسوق استدراكين ضروريين: أ- ليس المقصود إباحة الإساءة إلى الأديان أو الأخلاق أو الحياء، ولكن المقصود أن "محدد" هذه الإساءة - إذا حصلت - هو القراء والنقاد، لا المحاكم والسجون والمبايعة على الموت والتحريض على القتل. ب - ليس تذوق الأدب ونقده حكراً على المبدعين أو النقاد دون سواهم، وإلا كنا نستبدل فرقة ناجية بفرقة ناجية. فمن حق كل قارئ عادي غير متخصص أن يكون له رأي في ما يقرأ من أدب. لكن الوسيلة الوحيدة السليمة لإبداء ذلك الرأي هي عرضه بالقول أو بالكتابة عبر آداب الحوار وتقاليد الاختلاف واصول التجادل، وليس بالشرطة أو التكفير أو المطواة. وهنا أؤكد رداً على من تصوروا أننا ننكر على المسلم أن يحتج إذا قرأ في الأدب ما يعتبره ماساً بدينه أن من حق القارئ المسلم الغيور على دينه أن يستهجن النصوص التى يرى فيها قدحاً في مقدساته. على أن استهجانه ذاك ينبغي أن يعبر عن نفسه بالطريقة التي قررها له إسلامه، حين ألزمه بأن يجادل بالتي هي أحسن، فيقارع الرأي بالرأي والحجة بالحجة، وليس برفع المصاحف على أسنة الرماح كما فعل بعض أسلافه، وليس باستصدار فتاوى القتل. 5 - إن شعار "ثوابت الأمة" الذي يرفعه بعض المثقفين الذين يقفون في "منزلة بين المنزلتين"، هو شعار طيب، لكن التمعن فيه والتعاطي معه يفترض أحد طريقين: الأول: أن ننطلق بالفعل من أن هناك ثوابت للأمة لا يجوز تجاوزها. وعلينا حينئذ أن نواجه مجموعة متصلة من الاسئلة: هل ثوابت الأمة العربية هي الحضارة الإسلامية فقط؟ أليست الفرعونية أو القبطية جزءاً أصيلاً من ثوابت الأمة المصرية؟ أليست الفينيقية أو المسيحية ثابتاً من ثوابت الأمة اللبنانية؟ أليست الأشورية أو البابلية أو اليهودية ثابتاً من ثوابت الأمة العراقية والفلسطينية؟ إن إلغاء آلاف السنوات من حساب حضارة الأمة لمصلحة ألف وخمسمئة سنة فيها فقط، ليس سوى افتئات على "ثوابت" الأمة، على النحو الذي يعني - ضمن ما يعني - أن اصحاب شعار ثوابت الأمة إنما هم - في جوهر موقفهم - يحتقرون هذه الأمة وثوابتها، وما رفعهم للشعار الطيب سوى قناع يخفي الجهل بهذه الثوابت، أو يخفي ركوب هذه "الثوابت" لأغراض مصلحية "متحركة". ولعلّ ثوابت الأمة حمّالة أوجه - كما قال علي بن أبي طالب - يأخذ منها من يشاء ما يشاء. على أن المغزى الأهم هو أن أصحاب شعار "ثوابت الأمة" انتقائيون يختارون من ثوابت الأمة ما يمنح جمودهم ومصالحهم شرعية، ويغمضون العين في هذه الثوابت عمّا ينزع هذه الشرعية أو يعريها أو يمنح شرعية مضادة لأهل الاستنارة والعقل. لن نجافي الحق إذا تأكدنا من أن هذه الانتقائية المصلحية تنطوي على أنهم يستبدلون بثوابت الأمة ثوابتهم هم، وأنهم بذلك يمارسون نوعاً جلياً من التضليل والتزييف، يجعلهم - في جوهر رؤيتهم - يقفون موقفاً معادياً لثوابت الأمة في صورتها الشاملة لا المجزأة، وفي كليتها الواسعة لا في ضيقها المقارب "للقدم الحديدية". أما الطريق الثاني: فهو أن ننطلق من أن فكرة ثوابت الأمة فكرة روّاغة مراوغة، وهي كلمة حق يُراد بها باطل. ذلك لأنه ليس هناك ثوابت أبدية خالدة لأية أمة، فوجود مثل هذا الثبات الإطلاق يرادف الجمود والتحجر والانقذاف خارج التاريخ، وهو ما يشير إلى أن مثل هذا الاختيار هو اختيار موت لا اختيار حياة. إن كل ثابت منطو بالضرورة على متغيره، بحسب المرحلة والسياق الحضاري والتاريخي والاجتماعي، في حركة جدلية من الوحدة والتنوع أو من التجمد والتجدد. وما يكون ثابتاً في مرحلة يكون متغيراً في مرحلة تالية، والعكس صحيح. ألم تكن الخلافة العثمانية ثابتاً من ثوابت الأمة في العشرينات من القرن العشرين؟ ومن أجل هذا الثابت اعتبر حماة الثوابت كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم" خروجاً على ثوابت الأمة، فأخرجوا صاحبه وهو المفكر الإسلامي المرموق، من هيئة علماء الأزهر، التي كان عضواًَ فيها، وصادروا كتابه "المتحرك". على أنني - بعد كل ذلك - أسأل سؤالاً مختلفاً: أليس احترام رأي الآخر - مهما كان مخالفاً - ثابتاً من ثوابت الحياة لا الأمم فحسب؟ وأليست الحرية - بكل صنوفها - أولى ثوابت الشعوب والحضارات من حيث كونها الهدف الأعز الذي يصغر دونه كل هدف، حتى أن الأفغاني - المفكر الاسلامي المستنير - كان على استعداد لدفع حياته ثمناً لحرية الآخرين في إبداء رأيهم المخالف والمختلف. أليس التسامح - بمعنى "قبول الآخر" هو ثابت من ثوابت الدين الإسلامي، حيث يغدو إنكار المتطرفين لهذا التسامح إزراءً بالدين الإسلامي نفسه، على النحو الذي صوّره لنا أبو نواس، حين قال: "فقل لمن يدعي في العلم فلسفة / حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء / لا تحظر العفو إن كنت إمرءاً حرجاً / فإن حظركه في الدين إزراء". أما السؤال الأكثر حرجاً فهو: أليس "التغير" معنى من معاني الله نفسه، على النحو الذي يمكن أن يشير إليه تأويل من تأويلات قوله الكريم: "كل يوم هو في شأن".