بين الفينة والأخرى تثار إشكاليات معرفية واجتماعية وتبرز على السطح معارك ساخنة ، تستغرب من تحوّل موضوعها إلى مادة للجدل والمشاحنات المفتوحة على كل الذخيرة اللفظية والاجتماعية، التي تبرز من أفواه أصحاب الموضوع بشكل سلس وكأنه أحد حقوقهم الطبيعية.. لا يمكن الدفاع عن قيم الأمة وثوابتها، دون الدفاع عن قيمة الحرية .. وكل محاولة للدفاع عن الأمة وثوابتها ومقدساتها، بعيدا عن قيمة الحرية، هي محاولة استبدادية ومضادة لقيم الدين العليا، حتى ولو تجلببت بشعارات الدين وثوابت الأمة أسوق هذا الكلام وأنا أتابع المعركة التي بدأت في المشهد الثقافي المصري المتعلق بحذف بعض نصوص كتاب (ألف ليلة وليلة) .. فبين عشية وضحاها تحول هذا الكتاب الأدبي التاريخي إلى مادة للسجال والحرب الثقافية والإعلامية بين مجموعات ثقافية يكن لها الإنسان المثقف كل التقدير والاحترام.. لهذا فإننا بحاجة لأن ندرك أن جذوة العقل وشعلة الوعي لا يمكن إنهاؤهما بالقسر والعوامل المادية ، لذلك فإن كتاب (ألف ليلة وليله) بقي كل هذه السنين المتطاولة متداولا ونافذة معرفية وأدبية، يتعرف من خلالها الإنسان على أهم معارف البشرية وآدابها خلال القرون الماضية.. ووجود نصوص لا نقبلها، لا يبرر لنا بأي شكل من الأشكال، المطالبة بحذفها وطباعة الكتاب من دونها.. هذا نص تاريخي ، لا يمكن لأي طرف أن يتصرف فيه.. له كامل الحق على نقده وتعريته معرفيا، ولكن ليس لأحد الحق في حذفه.. لأن وعي الإنسان وحريته في التفكير والاختيار، وقدرته على استنباط الجديد، لا يمكن وضع القيود أمامها.. فكلما زاد المنع أو محاولات الحذف والتشطيب، زادت شعلة الوعي اشتعالاً.. وكلما استخدمت الأساليب القروسطوية في محاربة الفكر والاجتهادات الإنسانية، توصل الإنسان إلى أساليب جديدة، يستطيع من خلالها أن يعبر عن أفكاره واجتهاداته الثقافية.. فشعلة الوعي، لا تُطفأ بعمليات المنع والحذف، وإدخال النصوص الأدبية التاريخية في قوالب ضيقة منسجمة وقناعات بعض الأطراف . وإن نزعة المنع والحذف والتشطيب، لا تخدم ديناً ولا فضيلة أخلاقية، وإنما تساهم في تأبيد التخلف الثقافي والاجتماعي، وتفضي إلى المزيد من الكبت بكل صوره وأشكاله.. وإن هذه المعركة مهما كانت مبرراتها ومسوغاتها، هي معركة جزئية، ولا تعكس طبيعة المشكلات الجوهرية التي تعانيها الحياة الثقافية العربية.. فكتاب (ألف ليلة وليلة) هو جزء من التاريخ الأدبي والثقافي، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال بتره، أو التعامل معه بوصفه نصا يتضمن فحشا أو ما أشبه ذلك.. وفي تقديرنا أن تراجع مستوى الإبداع في أية أمة، يرجع إلى انهيار مصادر التجديد والتغيير والتطوير في الأمة، فتبرز من جراء ذلك، بعض المعارك الجانبية، التي لا ترقى إلى صميم المشاكل الجوهرية التي تعانيها الأمة . فحينما تسود أيدلوجيات التسويغ والتبرير ونزعات البتر والمنع والتخوين، وتتضاءل إمكانية استخدام العقل ويصاب الوجدان والشعور باليباس، حينذاك تخبو شعلة الوعي وتغيب كل أشكال الإبداع في المجتمع والأمة. وليس من قبيل الصدفة أن تقترن لحظات الإبداع واتقاد شعلة الوعي في تجربتنا التاريخية مع لحظات النهضة والخروج من إسار الجمود، وتفكيك عناصر التخلف في حياتنا الاجتماعية والثقافية. فبوابة الوعي والإبداع في واقعنا المعاصر، ليس الاستخفاف بقيم الدين والغيب، وإنما الانعتاق من كل القيود الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تحول دون ممارسة التفكير بشكل حر ومستقل. وأول الإبداع، السؤال وقلقه المعرفي، وجدله الإنساني. والإنسان بحسب المنظور الرباني أكثر الكائنات قابلية للجدل. لذلك من الضروري أن نبتهج بالسؤال، لأنه يمنحنا التحفز والرغبة، ويدفعنا إلى البحث المضني والمغامرة العقلية. ونرفض الإجابات الجاهزة والمعلبة، التي يسوقها أصحابها، وكأنها الحقيقة الكاملة والناجزة . والثقافة بوصفها حب المعرفة والتعلم والتواصل الحر مع المعارف الإنسانية، والحرية كتوق إلى الكرامة والفرادة والانعتاق من كل الأغلال. كلتاهما ( الثقافة والحرية) إرادتان طبيعيتان ومتأصلتان لدى الإنسان السويّ، وتقر بهذه الحقيقة الأديان السماوية والمذاهب الإنسانية على السواء. ولا يمكن الزعم بأي حال من الأحوال، أنهما من كماليات الوجود.. إذ كل المعطيات الوجدانية والدينية والحضارية، تدفع إلى الاعتقاد الجازم أن الثقافة والحرية كحاجات إنسانية، هما من ضرورات الوجود الإنساني . لذلك فإن التعامل مع الثقافة بنصوصها التاريخية والمعاصرة، بعيدا عن قيمة الحرية، هو التعامل الضار بالثقافة والحرية معا.. ولا يمكن الدفاع عن قيم الأمة وثوابتها، دون الدفاع عن قيمة الحرية .. وكل محاولة للدفاع عن الأمة وثوابتها ومقدساتها، بعيدا عن قيمة الحرية، هي محاولة استبدادية ومضادة لقيم الدين العليا، حتى ولو تجلببت بشعارات الدين وثوابت الأمة. فثوابت الأمة والدين، ليست ضد الحرية، بل هي حامية لها ومدافعة عن أهدابها ومقتضياتها. والثقافة ليست شعارات مجردة ويافطات معلقة، بل هي في جوهرها صوت الوعي بالحرية، ووسيلة اكتشاف المفارقات العميقة في أنها كيان اجتماعي، من جراء غياب أو تغييب الحرية في مستوياتها المتعددة.. لهذا كله فإننا نشعر أن هناك معارك وحروباً ثقافية على امتداد ساحتنا العربية والإسلامية، تساهم في تزييف الوعي، وتعمل على إخماد شعلته.. ولا ريب أن معركة كتاب (ألف ليلة وليلة) هي من المعارك الخاسرة، والذي أشعلها، لاتهمه حرية الأمة، ولا تشغله مقدساتها وثوابتها.. ومن يعمل على تصوير المعركة كأنها من أجل الدفاع عن هذه المقدسات، هو يطعنها من حيث لا يدري، لأنه يجعل هذه المقدسات في مقابل الحرية، وهي أسّ المقدسات ومدماكها الدائم؛فالمقدسات لا تشرع لأحد مصادرة العلم والمعرفة والأدب. ونحن دائما وفق الرؤية القرآنية مأمورون باتباع الأحسن.. إذ يقول تبارك وتعالى { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب (الزمر 18).. فحينما تتطور الظروف وتتبدل الأحوال وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا، استنادا إلى هدي القرآن الحكيم ونور العقل وبصيرة الإيمان ، اتباع الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا خطا واضحا في طبيعة التعامل مع مستجدات الحياة وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي.. إذ إننا مطالبون بالاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة (فليأخذوا بأحسنه) .. وهذه هي شعلة الوعي، التي تقودنا إلى استيعاب المنجزات والمكاسب، بدل محاربتها ورفضها، وهي التي تجعلنا نحمل مشكاة الحرية وندافع عنها.. فلا تناقض بين الثوابت والحرية، ولا تضاد بين المقدسات والثقافة والمعرفة بكل مستوياتها..