تأسيس المملكة كأعظم مشروع وحدوي في العصر الحديث حدث مفصلي عظيم، وخليق بالتأمُّل والبحث والدراسة، وهو من التحولات التي ما زالت مُغفلة من القراءات التاريخية والسياسية التي تضعها في موقعها بين الأُمم التي كتبت سرديّتها وقصة ريادتها في محيطها، بل تجاوزت هذا المحيط لتصبح ذات دور حيويّ ومحوري، لا يكتفي بالمشاركة الفاعلة في الإقليم، وفي العالم، بل إنها باتت صانعة للسلام، والاقتصاد، وناشرة لقيم الحوار، والتعايش، والمحبة، والوئام. ومن هنا؛ فإنه من الإجحاف اختزال المملكة في أدوار مألوفة، وفي حضور طبيعي لا يعكس عمقها، وتأثيرها، وأثرها. فالمملكة منذ توحيدها على يد العبقريّ الفذ الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وهي تعمل على المزاوجة بين الأصالة والانفتاح، وعلى تعزيز قيم التواصل الحضاري، والحوار الإنساني الذي يستوعب الإنسان أياً كان هذا الإنسان، وهو نهج رسّخه المؤسس العبقري الذي انطلق في مشروعه الوحدوي من همّ وجودي، ومن قناعة راسخة بأن لا سبيل لحياة كريمة آمنة، بلا حوار خلاق، وفعّال، حوار يستوعب الآخر، ويمدّ له يد العون، ويتضافر معه في تعزيز قيم التعايش والتعاون في كل خير ونماء للإنسان والإنسانية. وقد استمر هذا النهج الحضاري منذ عهد المؤسس حتى عهدنا الزاهر، وباتت بلادنا أيقونة سلام وتواصل حضاري، وجسور من الود والتعاون لخير البشر، وهو ما جرى تعضيده من خلال مؤسسات ومراكز للحوار والتواصل والانخراط في كل عمل يسعى لخدمة البشرية في أي صقع وبقعة في عالمنا الفسيح. ولعل من أهم هذه المراكز والمؤسسات، مركز الملك عبدالعزيز للحوار الحضاري، هذا الصرح الثقافي والإنساني المتنوع في أهدافه ورؤاه وأدواره، والذي نجح في ترجمة قيم التواصل والحوار والتعايش مع الآخر، واستطاع أن يجعل من التواصل الحضاري فعلاً مشروعاً وطنياً تجاوز في حضوره وأثره المبادرة الثقافية العابرة. ولا يغيب عن أي متابع فطن أن هذا الحضور لهذا المركز لم يكن محض مصادفة، أو مجرد اجتهاد، وإنما هي قيم رسّخها من حمل المركز اسمه؛ هذا الموحّد العظيم لهذا الكيان العظيم، فحمل المركز اسم المؤسس الذي جمع الشتات ووحّد الجغرافيا، وفتح الباب أمام كيان يقوم على المزاوجة بين الأصالة والانفتاح. فاليوم، يعيد المركز تفعيل هذا الإرث ولكن بلغة العصر: حوار، وتواصل، وإدماج، وانفتاح على الآخر دون التفريط في الذات من خلال الورش واللقاءات، وبات لا يكتفي بأن يكون منصة للعرض الثقافي، بل يسعى ليكون فضاءً للتبادل والتأثير المتبادل، حيث تحمل المملكة رسائلها إلى العالم بلغة الفن والفكر والإنسان، وترحّب في المقابل بفهمٍ أعمق لثقافات الشعوب الأخرى، بعيدًا عن الصور النمطية والاختزال.