لم يكن مؤتمر حزب اتحاد التسعين - الخضر الذي عقد في نهاية الاسبوع الماضي عادياً على الاطلاق، على رغم ان كل التحضيرات التي واكبته كانت عادية بامتياز باعتباره مؤتمراً دورياً ومواضيعه معدة منذ فترة. لكن الاتفاق - المساومة الذي توصلت اليه الحكومة الحمراء - الخضراء مع ممثلي شركات الطاقة النووية في البلاد حول توقيت التوقف عن استخدام هذه الطاقة هي التي جعلت المؤتمر يبدو وكأنه يعقد في حالة استثنائية لاتخاذ موقف حاسم من المساومة: اما معها أو ضدها. فقد انقسم الحزب من القمة الى القاعدة بعد اعلان الاتفاق بين مؤيد ومعارض للمساومة. وحجة الرافضين ان التحالف تراجع عن الاتفاق المشترك الداعي الى خروج سريع من عصر الطاقة النووية بعدما تم تحديد فترة 32 سنة لكل مفاعل نووي تحسب منذ وضع المفاعل موضع العمل، وتراجع بالتالي عن مطلب اقفال مفاعل على الأقل قبل انتهاء ولاية الحكومة عام 2002. ولم تكن قيادة الخضر بوزرائها الثلاثة الذين يمثلونها في الحكومة الاتحادية، بخاصة وزير البيئة يورغن ترتين، الوحيدة التي وضعت يدها على قلبها تحسباً لنتيجة التصويت في المؤتمر، وانما الحزب الاشتراكي الديموقراطي أيضاً، لأن رفض المؤتمر الاتفاق كان يمكن أن يعني رفض التحالف الحكومي وخروج الخضر اضطرارياً منه، الأمر الذي كان يمكن أن يتحول الى نوع من الانقلاب السياسي على التحالف ويضع الاشتراكيين الديموقراطيين أمام خيار فجائي صعب: التحالف مع المعارضة بشروطها هي. لكن مؤتمر الخضر الذي شهد نقاشاً حامياً بين جناحيه التقليديين، الجناح الأصولي والجناح الواقعي، تمكن بعد التصويت الايجابي جداً من اعطاء اشارة ذات مضامين متعددة الى الخارج، خصوصاً بعد الخسائر المتتالية التي مني بها في عدد من الانتخابات بسبب الخلافات الداخلية التي شوهت صورته. وتمثل المضمون الأول لتصويت اكثرية ثلثي المندوبين الى جانب المساومة التي اقدمت عليها الحكومة للخروج من عصر الطاقة النووية في البلاد في نشوء أكثرية واضحة وحاسمة للمرة الأولى داخل حزب الخضر تقف الى جانب الجناح الواقعي البراغماتي الذي يقوده وزير الخارجية يوشكا فيشر، وهو تطور فاجأ الجميع في الحزب وخارجه. وأصيب الجناح الأصولي بهزيمة منكرة هذه المرة سيكون لها تأثير سلبي بعيد المدى على حجمه وموقعه اللاحقين داخل الحزب، تمثلت بدايته في سحب ممثلته تجديد ترشيحها لأحد منصبي الرئاسة. ومعروف ان الجناح الأصولي شهد في السنوات الأخيرة تراجعاً مستديماً لشرائح منه عن مواقفه المتصلبة وغير الواقعية، وانتقل العديد من قيادييه وأنصاره، خصوصاً خلال السنتين الماضيتين من ممارسة الحكم، الى مواقع الجناح الواقعي كما حصل لوزير البيئة تريتين الذي كان يتزعم الجناح الأصولي واختلف لاحقاً مع خليفته في رئاسة الجناح آنتيه رادكه التي تسلمت أيضاً أحد منصبي رئاسة الحزب. والمضمون الثاني للاشارة تمثل في الانتصار الذي حققه وزير الخارجية والرئيس غير المتوج لحزب الخضر يوشكا فيشر بعد سنين من العراك السياسي والايديولوجي والعملي مع ممثلي الجناح الأصولي. وتأكد هذا في النتيجة الأفضل التي حصل عليها فيشر لدى انتخاب المؤتمرين قيادة الحزب الجديدة ثم في انتخاب رئيسين امرأة ورجل جديدين للحزب كلاهما يمثلان الجناح الواقعي والبراغماتي. وبذلك استبعد الجناح الأصولي عن المواقع القيادية للمرة الأولى منذ تأسيس الحزب. أما المضمون الثالث والأهم فهو ان المؤتمر انتهى من دون حصول أي انقسام علني ومن دون ضوضاء وضجة وتبادل للاتهامات بين الفريقين كما كان يحدث في السابق. وربما الهزيمة الساحقة التي أصابت الأصوليين صدمتهم وجعلتهم ينكفئون على أنفسهم. ومن نافل القول ان الحزب بحاجة ماسة الى اظهار وحدته أمام الرأي العام لتحسين صورته من جديد والظهور بمظهر من يعي مسؤولياته ويطرح بواقعية المشاكل التي تعانيها البلاد والحلول العملية لها. وكانت شعبية الحزب تراجعت بحدة في الفترة السابقة وتتهدده حالياً العودة الى المرتبة الرابعة بين الأحزاب من جديد، بعدما تمكن قبل سنوات من انتزاع المرتبة الثالثة من الحزب الليبيرالي الذي يشهد حالياً انتعاشاً ملفتاً بعدما كان قد وصل الى نهايته السياسية عندما كان متحالفاً مع الحزب الديموقراطي المسيحي. ولا بد من القول ان اتفاق الحكومة الألمانية مع شركات الطاقة النووية على التخلي في مستقبل منظور عن هذه الطاقة النظيفة بيئياً بالفعل، ولكن الخطرة جداً على الحياة بعد مثال تشيرنوبيل الكارثي وعشرات الأمثلة الصغيرة الأخرى، هو اتفاق تاريخي من الناحيتين العملية والتاريخية. فقد فتحت المانيا في ظل الحكم الاشتراكي - الأخضر سابقة في تاريخ الطاقة واقرنت القول بالفعل. ويعود الفضل في ذلك الى حزب الخضر بصورة أساسية لأنه استمر على نهج الخروج من الطاقة النووية واستبدالها بالطاقات المتجددة من شمس ورياح ومياه وغير ذلك منذ أن تأسس قبل أكثر من عشرين سنة. ولولا ثباته على ذلك لما كان الحزب الاشتراكي الديموقراطي على استعداد لخوض هذه المعركة من ذاته ضد شركات الطاقة القوية التأثير وضد أحزاب المعارضة الرئيسية في البلاد. وكان على الخضر أن يفهموا ان مطلب التخلي عن الطاقة النووية فوراً الذي طالما رفعوه وترفعه الآن تنظيمات بيئية عدة تقف على يسار الخضر لا يمكن تطبيقه في ظرف اسبوع أو شهر أو سنة، إذ أن اقفال المفاعلات النووية فوراً سيؤدي الى اغراق المانيا في الظلام والى وقف عجلة الصناعة والاقتصاد في البلاد التي لن تكون قادرة على تسيير شؤونها بال5 في المئة المتوافرة حالياً من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، اضافة الى انه سيكون محتماً استيراد الكهرباء من الخارج لمواجهة النقص الحاد، وبالتحديد من المفاعلات النووية الفرنسية! كما ان الطاقات المتجددة غير الضارة بالبيئة لن تكون قادرة لوحدها على المدى المنظور على الأقل على تغطية احتياجات المانيا من الكهرباء على رغم ان الآمال الموضوعة على التطويرات التكنولوجية في هذا الحقل كبيرة. ولذلك لا بد للبلاد من العودة الى انتاج الطاقة الكهربائية بالاعتماد من جديد على الموارد الطبيعية التقليدية، أي الفحم الحجري بشكل خاص وعلى المحروقات، علماً بأن الخضر كانوا أيضاً أول من رفض ذلك بسبب التلوث الكبير للبيئة. والحزب يقبل الآن بالأمر بصورة موقتة لحين التوصل الى تغطية كاملة أو شبه كاملة لحاجة البلاد من الكهرباء من الطاقات المتجددة. ولم تكن صدفة قيام المستشار غيرهارد شرودر قبل أيام بتدشين أضخم وأحدث معمل في العالم لانتاج الكهرباء من الفحم الحجري في شرق البلاد بكلفة 2.5 بليون دولار، على أن تليه معامل أخرى في المستقبل غير البعيد للحلول محل المفاعلات النووية ال19 التي سيتوقف أولها عن العمل عام 2008 على الأرجح. تبقى هناك اسئلة مهمة جداً لا بد من الاجابة عليها على الصعيد الأوروبي ايضاً ألا وهي: متى ستبدأ الدول الأوروبية خطوة التخلي عن مفاعلاتها النووية على المثال الألماني؟ وهل من الممكن لألمانيا ان تبقى في منأى عن الاضرار التي يمكن أن يسببها انفجار مفاعل أو مفاعلات نووية في فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو تشيخيا أو بولندا؟ وما نفع ان تصبح المانيا مستقبلاً جزيرة خالية من الطاقة النووية ضمن بحر هائج بها؟