المؤتمر السعودي البحري واللوجستي يعود مجدداً إلى الدمام في سبتمبر 2024    النفط يرتفع مع سحب المخزونات الأمريكية وارتفاع واردات الصين    عقود ب3.5 مليار لتأهيل وتشغيل محطات معالجة بالشرقية    أكثر من 50 شركة تقدم طلباً للطرح والإدراج في "تداول"    جمعية البر بالشرقية توقع اتفاقية لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر    تاليسكا يتغنى بفترته مع النصر ويتحدث عن علاقته مع رونالدو    الزلفي تحتفي بعام الإبل بفعاليات منوعة وورش عمل وعروض ضوئية    مفتي عام المملكة يستقبل نائب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي    أمير الحدود الشمالية يتسلّم تقريرًا عن الصناديق العائلية والوقفية بالمنطقة    فيصل بن خالد بن سلطان يطلع على مشروع ربط حي المساعدية بحي الناصرية بمدينة عرعر    «تقييم» تبدأ بتصحيح أوضاع القائمين بتقدير أضرار المركبات في عددٍ من المناطق والمحافظات    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    حساب المواطن يودع 3.4 مليار ريال مخصص دعم مايو    القيادة تهنئ رئيس جمهورية طاجيكستان بذكرى يوم النصر لبلاده    القيادة تهنئ رئيس الجمهورية القرغيزية بذكرى يوم النصر لبلاده    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من باكستان    توقع بهطول أمطار رعدية    إطلاق مبادرة SPT الاستثنائية لتكريم رواد صناعة الأفلام تحت خط الإنتاج    ريال مدريد يقلب الطاولة على بايرن ويتأهل إلى نهائي "الأبطال"    إخلاء مبنى في مطار ميونخ بألمانيا بسبب حادث أمني    "واتساب" يجرب ميزة جديدة للتحكم بالصور والفيديو    طرح تذاكر مباراة النصر والهلال في "الديريي"    زيت الزيتون يقي أمراض الشيخوخة    محادثات "روسية-أرميني" عقب توتر العلاقات بينهما    بايدن يهدد بوقف بعض شحنات الأسلحة إلى إسرائيل إذا اجتاحت رفح    الديوان الملكي: وفاة والدة الأمير سلطان بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود    جدة التاريخية.. «الأنسنة» بجودة حياة وعُمران اقتصاد    «سلمان للإغاثة» يختتم البرنامج التطوعي ال25 في «الزعتري»    دجاجة مدللة تعيش في منزل فخم وتملك حساباً في «فيسبوك» !    الاتحاد يتحدى الهلال في نهائي كأس النخبة لكرة الطائرة    أشباح الروح    بحّارٌ مستكشف    منها الطبيب والإعلامي والمعلم .. وظائف تحميك من الخرف !    النوم.. علاج مناسب للاضطراب العاطفي    احذر.. الغضب يضيق الأوعية ويدمر القلب    المملكة ونمذجة العدل    القيادة تعزي رئيس البرازيل    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    روح المدينة    خلال المعرض الدولي للاختراعات في جنيف.. الطالب عبدالعزيزالحربي يحصد ذهبية تبريد بطاريات الليثيوم    ختام منافسة فورمولا وان بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي    كشافة شباب مكة يطمئنون على المهندس أبا    شقيق الزميل حسين هزازي في ذمة الله    " الحمض" يكشف جريمة قتل بعد 6 عقود    الوعي وتقدير الجار كفيلان بتجنب المشاكل.. مواقف السيارات.. أزمات متجددة داخل الأحياء    نائب أمير الشرقية يلتقي أهالي الأحساء ويؤكد اهتمام القيادة بتطور الإنسان السعودي    سعود بن جلوي يرعى حفل تخريج 470 من طلبة البكالوريوس والماجستير من كلية جدة العالمية الأهلية    فهيم يحتفل بزواج عبدالله    نائب أمير منطقة مكة يكرم الفائزين في مبادرة " منافس    لقاح لفيروسات" كورونا" غير المكتشفة    أعطيك السي في ؟!    الاتصال بالوزير أسهل من المدير !    سمير عثمان لا عليك منهم    الذهب من منظور المدارس الاقتصادية !    حماس.. إلا الحماقة أعيت من يداويها    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس مجلس إدارة شركة العثيم    أمير تبوك يشيد بالخدمات الصحية والمستشفيات العسكرية    الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر . حملة نابليون بونابرت الغريبة الأطوار . ذلك الذي جرى ، هل هو نصر أم هزيمة ؟
نشر في الحياة يوم 21 - 07 - 1998

} نشر هذا المقال في مجلة "L'Histoire" الفرنسية الشهيرة في تشرين الثاني نوفمبر عام 1983 وكاتبه جان تولار من أبرز الإختصاصيين في البونابرتية. نقل المقال الى العربية فيصل جلول بتصرّف اقتضته أسباب متصلة بالحجم.
لا يوجد في تاريخ بلادنا حملة غريبة الاطوار كحملة مصر عام 1798. وهي غريبة الاطوار لأنها اقتضت ارسال افضل جيش في فرنسا في بواخر معرضة للأسر او للغرق بواسطة الاسطول الانكليزي الذي كان يسيطر على البحر المتوسط بلا منازع. وغريبة الاطوار لأن رجالها استقلوا البواخر من دون ان يعرفوا وجهة السفر. وغريبة الاطوار ايضاً لأنها قضت باجتياح بلدٍ في شهر تموز يوليو حيث الحرارة شديدة الارتفاع، ما يفصح عن جهل كامل بمناخه، ناهيك عن اننا لم نعلن الحرب عليه من قبل.
من جهة ثانية كانت هذه الحملة غريبة الاطوار لأن دافعها المعلن هو تأسيس مستوطنة في وقت كنا نطرح فيه شعار حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. وبلغت الغرابة قمتها عندما تحوّل الجيش الفرنسي المحتل الى أسير لاحتلاله وأصبح غير قادر على العودة الى فرنسا، في حين تخلى عنه قائده بونابرت وعاد الى باريس من اجل انقاد الجمهورية التي كانت مهددة من قوى مؤتلفة كان تشكيلها متوقعاً منذ وقت طويل.
لكن على رغم غرابة اطوارها فإن حملة مصر قد غيرت وجه التاريخ. فهي اتاحت ولادة علم المصريات Egyptologie عبر اكتشاف امجاد حضارة، ان لم تكن منسية فقد اصبحت غامضة. وأتاحت الحملة انطلاقة اقتصادية لمصر وأعادت لها مكانة في الشرق الاوسط كان يبدو انها فقدتها. لهذا كله ما زالت هذه الحملة تمارس تأثيراً خلاباً رغم انها ليست الاكثر ابهاراً بين حملات بونابرت. لذا ما برحت تغتني ببليوغرافيا الحملة بأعمال جديدة في السنوات الاخيرة. فقد أعيد نشر كتاب بنوا - مشان "بونابرت في مصر" والسيرة الذاتية ل"فيليبو" ملكي فرنسي المدافع عن عكا وحليف الانكليز. والطبعة الاصلية ليوميات احد الاشراف المصريين عبدالرحمن الجبرتي في القاهرة بين 1798 - 1801 والتي انجزها جوزف كيوك. ورسومات غير معروفة لنويل ديجوين مرفقة بتعليقات رائعة لفرناند بوكور. وإحصاء للأطروحات الجامعية التي تناولت الحملة المدهاج - إ - غوبي.. إلخ.
بعد اعلان سلام كامبو - فورميو عام 1797 اصبح نابليون بونابرت الجنرال الاكثر شعبية في الجمهورية. وكان جنرالاً شعبياً في نظام غير شعبي، وبالتالي عليه ان يستخلص النتائج من هذه المعادلة. وبما انه كان يتمتع بحس سياسي ما انفك يميّزه، فقد خلص الى ان قيامه بانقلاب على هذا النظام لم يحن اوانه بعد. ذلك ان حكم "الادارة" Le Directoire كان مؤلفاً من مجلس يضم خمسة مديرين يمارسون السلطة التنفيذية ودام من 1795 الى 1799 وقلبه بونابرت الذي اسس بعده النظام القنصلي، كان ما زال صامداً وصلباً بعد ان تخلّص من خصومه اليمينيين التيار الملكي واليساريين اليعاقبة معاً. ناهيك عن ان الرأي العام كان ما زال متحفظاً حيال الجنرالات السياسيين خصوصاً بعد التجارب الفاشلة للجنرالات: لافاييت وديموريز وبيشيغري. يضاف الى ذلك ان شعبية بونابرت لم تكن ناتجة عن انتصاراته فحسب وانما عن اخلاصه للشرعية وهو اخلاص برهن عليه وأكده دائماً، لذا كان بتجاوزه للشرعية او الايحاء بهذا التجاوز يُعتبر بالنسبة اليه موقفاً انتحارياً.
كان عليه اذاً ان ينتظر "اللحظة المناسبة" وأن يُذكّر بوجوده دائماً. هكذا عمل على ان يُنتخب عضواً في المجمع الفرنسي في 25 كانون الاول ديسمبر 1797 لكن ذلك لم يكن كافياً لجذب الانتباه طويلاً، فخلُص الى ان حملة عسكرية كبيرة، ضرورية بالنسبة اليه للبقاء في قلب الاحداث. لكن الى اين تتجه هذه الحملة؟ هل يمكن استعادة مشروع سابق لشن حملة عسكرية على انكلترا؟ هذا الخيار بدا مليئاً بالمخاطر والمحاذير، فقد اخفق "هوش" من قبل ولم يكن بونابرت واثقاً من انه سيفعل افضل من سلفه.
في هذا الوقت، وتحديداً في 3 تموز 1797 قرأ "تاليران" وزير العلاقات الخارجية دراسة خلال جلسة عامة "للمجمّع" حول الفوائد التي يمكن جنيها من المستعمرات الجديدة في الظروف الراهنة. وذكّر في هذه الجلسة بمشروع اعده "شوازيل" وينادي بالتنازل عن مصر لفرنسا او بيعها لفرنسا Cession. فمصر كانت في حينه "على الموضة"، اذ في العام 1785 كان "سافاري" قد نشر رسائله عن مصر وبعد عامين اطلق "فولني" رحلته الى مصر وسورية، قبل ذلك لم نكن نعرف اشياء كثيرة عن هذه المقاطعة التابعة للامبراطورية العثمانية ولم يكن ماضيها المجيد معروفاً بصورة جيدة. لكن لماذا الاستيلاء على مصر؟ الجواب نجده عند "تاليران" الذي كان يعلن نهاية السيطرة التركية على الشرق الاوسط وأوروبا ويرى انه لا بد من الافادة من ذلك وبالتالي القبض على تركتها والحفاظ على تجارة فرنسا في الشرق. وفي 27 كانون الثاني يناير عام 1798 حدد "تاليران" نواياه بوضوح: "... لن تستمر الامبراطورية العثمانية اكثر من 25 سنة وستكون مقاطعاتها الاوروبية فريسة لامبراطوريتين"، وهذا مناقض بالطبع لرأي "مونتسكيو" الذي قال في مكان ما: "... ستدوم الامبراطورية العثمانية طويلاً لأنها عندما تتعرض للتهديد من اي قوة، ستهب الامم التجارية الثلاث الكبيرة في أوروبا لنجدتها".. مهما يكن من امر، فإذا ما تأكدت حسابات الذين يعرفون الامبراطورة العثمانية، افضل من غيرهم، فإن على الجمهورية الفرنسية ان تتخذ تدابير تتيح لها اقتطاع الاجزاء التي تناسبها من التركة العثمانية، واضعة مصر في المقام الاول بدون تردد، وجزيرة كريت وجزيرة Lemnos. ان مصر التي جعلتها الطبيعة قريبة جداً منا، تُقدم لنا فوائد ضخمة في العلاقات التجارية سواء مع الهند او مع غيرها. فضلاً عن ان مناخها وأرضها يمكن ان يُغنيانا عن مستعمراتنا في الهند الغربية، اما جزيرتا كريت وLemnos. فتجعلانا اسياداً في أرخبيل بحر إيجة ومضيق الدردنيل لكن التمتع بهذه الانتصارات يفترض ارتياد جزيرة مالطة بحرية". وعما سيكون موقف القسطنطينية من هذا التوجه؟ يرد "تاليران" قائلاً: "... لماذا يجب ان نواصل بذل التضحيات لمصلحة قوة تقترب من حتفها، وصداقتها ملتبسة؟ ثم ان مصر لا تمثّل شيئاً بالنسبة لتركيا ولا سلطة للاتراك عليها".
في 14 شباط فبراير عام 1798 تسلّم حكم "الادارة" تقريراً حول "المسألة المصرية" ورد فيه: "... ان مصر الواقعة في عقدة مواصلات بين أفريقيا وآسيا وأوروبا لا ينقصها الا حكومة عاقلة تكشف عن الكثير من مصادر الغنى والرخاء فيها. يجب ان يعاد فتح طريق السويس امام التجارة مع الهند بدلاً من طريق رأس الرجاء الصالح المكلف والطويل. وينطوي هذا المشروع على ثورة اقتصادية، وسيكون في حال تنفيذه بمثابة ضربة قاصمة للانكليز، ويخدم مصالح فرنسا بسبب موقعها على البحر المتوسط. ان شعوب أوروبا، ستفقد عاجلاً ام آجلاً مستعمراتها الاميركية ولن تحظى فرنسا بتعويض افضل من هذا التعويض".
وكانت اجهزة "تاليران" تحرص على لفت الانتباه الى انه بعد احتلال مصر، يمكن لفرنسا ان ترسل حملة عسكرية من السويس الى الهند وتتصل ب"Tipoo-Sahib" الذي اصبح سلطاناً على Mysore بعد ان طرد الانكليز منها عام 1784. وكانت تؤكد ايضاً ان انكلترا لا تستطيع ان تتصدى للحملة على مصر، اذا تمت بسرّية، لأنها ستكون مضطرة ساعتئذ لمواجهة احتمال انزال بحري فرنسي على شواطئها. وتشير ايضاً وأيضاً الى ان روسيا وبروسيا والنمسا لا يمكنها ان تحتج على الحملة المصرية، لأنها منشغلة بهضم بولونيا، ولا يعقل ان تحتج وهي نفسها قد شطبت المملكة البولونية من الخارطة، وأخيراً كانت الاجهزة نفسها تُطمئن بأنه يمكن ارسال بعثة الى القسطنطينية للحصول على رضى الباب العالي. ذلك كله لا يدع مجالاً للشك في ان "تاليران" هو صاحب فكرة الحملة على مصر. لكن متى فكّر نابليون في هذه الحملة؟
اذا ما رجعنا الى يوميات "ديزيه" نلاحظ ان بونابرت ربما تحدث عن الحملة المصرية للمقربين منه خلال حملة ايطاليا. ومن المعروف انه قرأ كثيراً عن الشرق في مذكرات البارون توت وفي تاريخ العرب لماريني فضلاً عن تاريخ الاب رينال حول الهند الشرقية والغربية. ويمكننا ان نؤكد بأنه كان على علم بأفكار "تاليران". هكذا بدا له انه لا بد من اغتنام هذه الفرصة الجيدة. أليست الوسيلة المناسبة لأخذ مسافة من حكم "الادارة" وترك الاوضاع تتفاقم في البلاد؟ خصوصاً ان الانتصار في هذه الحملة بدا له سهلاً بحسب تأكيدات القنصل ماجلان. وأخيراً كان الشرق يستجيب لخيال بونابرت لأن التوجه نحو الهند عبر مصر يجعله في منزلة الاسكندر المقدوني.
طرح الكثير من المؤرخين فرضية تقول ان بونابرت كان يحلم بإقامة امبراطورية يمكن رسم حدودها في مناطق سيطرة الاتراك، وتحدث كثيرون عن الحلم الشرقي لنابليون، من ادوار دريّو الى بنوا - مشان، وتداولوا صيغاً عديدة لهذه الامبراطورية، لكن هذه الصيغ ربما كانت تهدف الى خلط الاوراق وطمأنة حكم "الادارة" الى نياته. وهو يرجع الى هذه الفترة في احاديثه في جزيرة القديسة هيلانة، لكن من دون ان يفصح عن حقيقة نياته في العام 1798. في كل الحالات كان بونابرت يبدو خلال حملة مصر وكأن انظاره متجهة نحو فرنسا وأن الحلم الغربي يتقدم عنده، على الحلم الشرقي.
واذا كان صحيحاً ان هذه الحملة تندرج تماماً في السياسة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، فإن النظر اليها عن قرب يتيح القول بأنها خيار جنوني لأن احتلال مصر كان سيحرم فرنسا من جيش وجنرال مجرّبين في وقت كانت فيه فرنسا مهددة بالحرب. ناهيك عن انه كان من الصعب ضمان اتجاه مثل هذه العملية، هذا اذا اهملنا رد الفعل التركي. لأنه وعلى رغم الاقوال المطمئنة، تنطوي هذه الحملة في الحد الادنى على خطر "التخلي" عن الحليف التركي. كان ينبغي اذاً ان يذهب "تاليران" الى القسطنطينية كي يشرح للسطان بأن الامر لا يتصل بعمل حربي ضده، لكن هذه الزيارة لم تتم لأسباب مختلفة.
لقد بدا "تاليران" مُستخفّاً عندما وجّه نابليون نحو مصر. وبخلاف الاعتقاد السائد، يروي جوزف بونابرت ان اخاه كان متردداً كثيراً ولم يكن شديد الحماسة لأنه كان يحسب الى اي مدى كان هذا الرهان جزافاً. ويؤكد على ذلك "فوشيه" الذي يروي في مذكراته ان بونابرت كان يشعر بأن حملة مصر هي بمثابة فخ منصوب له، ذلك ان حكم "الادارة" كان بالتأكيد، ينظر بعين الرضى، الى ابتعاد جنرال مُربك للغاية، عن باريس. لكن على رغم ذلك كله كان نابليون يستعجل الاستعدادات، فغادر باريس في 4 أيار مايو 1798 الى طولون.. وانطلقت الحملة.
تم التحضير للحملة وسط اجراءات سرية للغاية كي لا تتسرب اخبارها الى الانكليز المسيطرين على البحر المتوسط وكي يتمكن الاسطول الفرنسي من الابحار خفية. لذا لم يتم ابلاغ الجنود بوجهة الحملة. ومثال ذلك ان "ميرا" الموجود في حامية ايطاليا، تلقى أمراً بالانتقال الى ميلانو، وفيها تلقى أمراً آخر بالذهاب الى جنوى بسرعة قصوى، وعلم فقط انه سيقود اللواءين 14 و18 "دراغون" في "الحملة الكبيرة" التي ما انفكت وجهتها مجهولة. في مثل هذه الظروف تم تحضير الحملة واستغرقت الاستعدادات شهراً واحداً، لأن التأخير كان ينطوي على خطر تسرّب اخبارها الى الانكليز. اما تغطية نفقات الحملة، فقد تمت بواسطة الاموال التي اخذت من برن اثناء التدخل الفرنسي.
خيّم ذهول كبير على العسكريين عندما شاهدوا مثقفين واختصاصيين يصعدون الى البواخر: 21 عالم رياضيات و3 علماء فلك و16 مهندساً مدنياً، و13 عالم طبيعيات و5 مهندسي مناجم و4 مهندسين معماريين و8 رسامين و10 ادباء و22 اختصاصياً في الطباعة مجهزين بأحرف لاتينية ويونانية وعربية... اما لائحة الشخصيات المعروفة والتي اعدت للرحلة فهي مثيرة للدهشة، ومن بين هؤلاء: مونج وبيرتوليه وجوفروا سان هيلير وعالم الآثار جومار والمستشرق جوبير وفيفيان دونان وكونتيه المشهور بأقلام الرصاص، والشاعر بارسيفال - غراند ميزون وفنان تشكيلي وعازف بيانو.. هكذا لم تشمل الحملة افضل جيوش فرنسا فحسب 35 ألف رجل وإنما ايضاً نخبتها العلمية. لكن لماذا هذا الحشد من الاختصاصيين؟ هل يُعبّر عن ارادة بإدراج الحملة ضمن التقليد العظيم للرحلات العلمية في القرن الثامن عشر؟ ام انه ذريعة لتغطية الاحتلال؟ في كل الحالات يمكن لنا ان نتخيل حجم الكارثة لو ان "نيلسون" اعترض هذه الحملة في البحر.
أبحرت في 19 أيار 1798 مائتا سفينة بقيادة "برويس" فكيف توصل اسطول بهذه الاهمية ومدعوم بمراكب جاءت من ايطاليا، كيف توصل الى الافلات من رقابة الانكليز البحرية؟ لقد أخطأه "نيلسون" مرتين لكنه واصل تقدمه، وفي طريقه، استولى بونابرت على مالطة التي يمكن استخدامها كمحطة. وفي مالطة فقط عرف المبحرون رسمياً بهدف الحملة. وفي اول تموز نزل الفرنسيون في الاسكندرية، فكانت مفاجأة تامة لسكانها الذين لم يكن لديهم اي دليل يسمح بتوقع مثل هذا العدوان لذا كانت مقاومتهم محدودة.
وفي 2 تموز، وجه نابليون بمهارة بلاغاً للسكان اشار فيه الى انه: "... منذ زمن طويل يشتم البكوات الذين يحكمون مصر، الامة الفرنسية، ويحيطون تجارها بالاهانات. وها قد حان وقت عقابهم".. لكنه لم يأت لعقاب المماليك فقط وإنما كمحرر "... ان وجدت اراض جيدة فهي لهم. وان وجدت جارية جميلة او حصان جميل او بيت جميل فهي للمماليك. اذا كانت مصر مزرعة لهم فليبرزوا عقد الملكية الذي اعطاهم الله اياه.. لا. فالله عادل ورحيم للشعب المصري".. وبما انه عادل ورحيم فقد اختار بونابرت بطلاً للمساواة، كي يأتي الى مصر ويحرر المصريين. ولئن قيل انه كافر، فهذا غير صحيح "... انا احترم الله ونبيّه والقرآن اكثر من المماليك".
يُظهر هذا البلاغ ان بونابرت استعلم جيداً حول ما يدور في مصر التي كانت خاضعة بالفعل للمماليك، وسيطرتهم على مصر ناتجة عن سلسلة من التطورات. فخلال الاحتلال العثماني اطلق الاتراك يد الحامية المؤلفة من الانكشاريين الذين تولوا شؤون البلاد. وكان الانكشارية يُجندون حينذاك من ابناء الاسر والرعايا المسيحيين، ويتلقون تربية اسلامية فيصبح ولاؤهم حصراً للدولة. وكان هؤلاء يمنعون من الزواج ومن ممارسة نشاطات اخرى غير النشاط العسكري. واتسع التجنيد الانكشاري من بعد فصار يشمل ابناء المسلمين الذي كان يحق لهم الزواج، فأسسوا عائلات وصاروا يزاولون مهناً اخرى لتغطية النقص في مداخيلهم، ومن بعد اتسعت هذه الشريحة العسكرية حتى صارت تشمل العبيد الذين جاء بهم العثمانيون من القوقاز ومن بين هؤلاء انبثقت سلطة المماليك.
كان المماليك يسيطرون على شعب من الحرفيين الصغار والفلاحين وأصحاب الدكاكين الذين يتحملون بفارغ الصبر عبودية باتت خارج التاريخ. لقد كان انحطاط مصر على الصعيدين الاقتصادي والسياسي امراً لا جدال فيه، في هذا الوقت من نهاية القرن الثامن عشر. لكن احتلالها لم يكن يمثل السهولة التي كانت متوقعة. فقد أُعدّت الحملة الفرنسية على جناح السرعة. واجتاح الفرنسيون مصر في تموز بواسطة تجهيزات لم تكن ملائمة ابداً لارتفاع الحرارة الشديدة في هذا الفصل. وتؤكد الشهادات الميدانية كلها على تدني معنويات الجنود الذين ضربتهم حمى الزُحار Dysenterie وأنواع الحمى المختلفة. من دون ان ننسى انهم كانوا يفتقرون الى اي دافع لاحتلال مصر، بخلاف معارك فالمي وجيماب حيث كانوا يدافعون عن مسقط رأسهم. لذا انتشرت شائعات نجد صداها في رسالة بعثها فرنسوا بيرنواييه مدير محترف الملابس التابع للجيش، الى زوجته ويقول فيها: "... لقد استعلمت عما كانت حكومتنا تنوي عمله، عبر ارسالها جيشاً للتمركز في الاراضي التابعة للصدر الاعظم، من دون اعلان حرب ومن دون اي دافع معلن. كان يكفي لفهم ذلك التمتع بقليل من الفطنة. ذلك ان بونابرت اصبح لديه الكثير من التأثير في فرنسا بفضل عبقريته وبفضل الانتصارات التي حققها بواسطة جيش صار لا يقهر. لقد صار بونابرت مزعجاً حتى لا اقول عقبة بالنسبة لأولئك الذين يقبضون على زمام السلطة في فرنسا. فأرسل الى مصر ولم اتمكن من كشف اشياء اخرى غير ما ذكرت". ان جيشاً يُضحى به لا يمكن ان تكون معنوياته مرتفعة، وهذا ما يُفسّر وقوع حالات انتحار في صفوفه.
وأخيراً اعاد انتصار الاهرام في 21 تموز، على ابواب القاهرة، بعض الامل للجنود. وعلى ابواب القاهرة يقال ان نابليون خاطبهم بقوله: "أيها الجنود ان تاريخ اربعين قرن ينظر اليكم". لكن يبدو ان هذه العبارة صاغها بونابرت في جزيرة القديسة هيلانة اثناء املاءاته الشهيرة التي روى من خلالها مذكراته.
هذه الحماسة لن تدوم طويلاً. ففي اول آب أغسطس، فاجأ "نيلسون" الاسطول الفرنسي في ميناء أبو قير، فتحطم كله تقريباً، وعليه صار نابليون المنتصر اسير انتصاره، ولاحت هذه المرة الكارثة بعينها. لذا بدأ "تاليران" في باريس يبتعد عن الحملة ويلقي بمسؤوليتها على "دولاكروا" سلفه في وزارة العلاقات الخارجية. لكن بونابرت ليس من النوع الذي يستسلم بسهولة. فابتداء من هذه اللحظة، قرر ان يُطوّر مصر ومن هذه اللحظة ستبدأ المرحلة الاكثر روعة في الحملة.
في 22 تموز وخلال بلاغ وجهه لأبناء القاهرة نجد عناصر خطة التطوير المذكورة: "... يا شعب القاهرة. انا راضٍ عن سلوككم. لقد احسنتم صنعاً بعدم مناهضتي. فقد جئت الى مصر من اجل القضاء على عرق المماليك. وحماية تجارتها ومصادرها الطبيعية. اذاً فليطمئن اولئك الذين يشعرون بالخوف، وليرجع الى منازلهم اولئك الذين هربوا خوفاً. ولتتم الصلاة اليوم كالعادة وأريد ان تتواصل دائماً. لا تخافوا على عائلاتكم ومنازلكم وممتلكاتكم، ولا تخافوا بصورة خاصة على الدين وعلى النبي الذي احبه. وبما ان من الملح الا يضطرب الهدوء، فسيقوم لهذه الغاية ديوان حكومة من 7 اشخاص يجتمعون في مسجد الازهر. وسيكون اثنان مع قائد المدينة وسيهتم 4 بحفظ الهدوء العام والاشراف على الشرطة".
قام فرنسوا شارل رو بجردة حساب لعمل الجنرال في الارض المحتلة، في كتابه "بونابرت حاكم مصر". ويتبين منها انه غداة معركة الاهرام، جرى تركيز 4 مستشفيات عسكرية في الجيزة وبولاق والقاهرة والقاهرة القديمة. ويرى الكاتب ان "... الطب دخل الى هذا البلد الذي كان كما يقال مهده الاول على يد "دو جينيت" الطبيب المسؤول في الحملة، و"لاري" رئيس جراحي الجيش، وسائر اطباء الجهاز الصحي". وألقت الضوء اطروحة جامعية راهنة اعدها سيرج جاغايو، حول الطب والصحة في مصر في القرن التاسع عشر، على التأثير الذي مارسته المستشفيات العسكرية الفرنسية في نهضة الطب في هذا البلد.
وحتى يواصل تغطية مصاريف جيشه، لم يتردد بونابرت بالاستيلاء على املاك المماليك. ووطد الجمارك في القاهرة وأنشأ فيها داراً للعملة، كان من مفتشيه "بيرتوليه" و"كوستاز" و"مونج". هكذا بذل نابليون ما بوسعه لكسب عطف المصريين، وفي طليعة مساعيه احترام المعتقدات وضرب اقطاعية المماليك. وباشر سياسة تنفيذ اشغال كبيرة، من ضمنها مبادرة المهندس لوبير بتحضير مشروع لوصل البحر الاحمر بالبحر المتوسط عبر برزخ السويس. وأصلحت قنوات الري القديمة من اجل احياء الزراعة.
وعلى الصعيد الثقافي أنشأ بونابرت، الذي كان يُوقّع بلاغاته بصفته عضواً في "المجمّع الفرنسي"، "مجمّعاً" مصرياً على النمط الفرنسي نفسه. ونشر صحفاً من بينها "بريد مصر" و"العقد المصري". غير ان الاهتمام الاكبر تركز حول ماضي مصر. وكان لافتاً ان يثير هذا الماضي اهتمام الجنود العاديين مثل "ديجوين" ... الامر الذي عبّر عنه بوضوح كتاب فيفان دونان الشهير "وصف مصر".
لقد تمكن الفرنسيون من القيام بكل هذه الاعمال وبإمكانات ضئيلة ووسط اضطرب امني كان يتصاعد مع توسع الاحتلال. ففي مقاطعة المنوفية اغتيل "جوليان" مساعد بونابرت اثناء قيامه بنقل رسالة من قائده الى الجنرال "كليبر" فتمت تصفيته مع مرافقيه. وهوجمت الحامية الفرنسية في المنصورة وأبيدت تماماً. وكاد مصير الفرنسيين في دمياط ان يكون مشابهاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.