طالما كانت الفنون الرفيعة هي أصدق وأسهل الطرق للتواصل وإذابة الفروق بين التنافرات والتناقضات البشرية، إذ لا تحتاج إلى لغة لكونها لغة في حد ذاتها، الى جانب قدرتها على ردم الهوة بين الآراء ووجهات النظر المختلفة. ويعج الفن الإسلامي بالذخائر التي تعكس عمق الحضارة التي انتشرت من الشرق إلى الغرب. واتسم الفن الإسلامي بالرقي وعدم الانغلاق، إذ امتزج مع فنون الديانات الأخرى، كما تناغم مع فنون الحضارات الأخرى في إسبانيا والمغرب العربي وفارس والشام وروما ومصر. وتكرس مكتبة الإسكندرية جهودها لمحاربة التطرف عبر العمل الثقافي والتنويري ومن خلال تبني عدد من البرامج والمبادرات التي تحارب الفكر المغلوط بالوسطية والاعتدال، إذ نظمت أخيراً مؤتمر «الفن الإسلامي في مواجهة التطرف» الذي شهد حضوراً كثيفاً من دول عدة بينها السويدوالهند وزامبيا وبنغلاديش وكينيا وبريطانيا وفرنسا والجزائروتونس والمغرب والسعودية والأردن والعراق، وأقيم بدعم من المجلس الدولي للمتاحف والمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، وبمشاركة ممثل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في السعودية سعد بن عبدالعزيز الراشد، ورئيس هيئة البحرين للثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، وممثل رئيس الأيكوم الدولي ريجينا شلوتز؛ وممثل هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام حمدان الكعبي. وأكد مدير المكتبة مصطفى الفقي، أن الفن الإسلامي ينطق بالتسامح والسلام، ويتمتع بالثراء الذي يجعله من أهم أدوات محاربة الإرهاب والتطرف، منوهاً بكونه شاهداً على التنوع الثقافي من الصين إلى المغرب. ورأت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة أن المؤتمر يأتي في وقت تتعرض المتاحف والمعارض والمواقع الأثرية للتدمير والخراب، مؤكدة أن الثقافة هي أهم فعل مقاومة لمواجهة التطرف والإرهاب. وتطرقت إلى أهمية الحفاظ على ذاكرة المكان والاهتمام بالمواقع الأثرية في المجتمعات العربية وحمايتها من أعمال التخريب، مشددة على ضرورة وضع قوانين تحد من هذا التدمير. وتتعاظم أهمية المتاحف في الحفاظ على الثقافة والتراث، والتعريف بالثقافات وتعزيز الهوية، وهو ما أكدته ممثلة رئيس الأيكوم الدولي ريجينا شلوتز بقولها إن المتاحف تعد إحدى وسائل التواصل والتفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى، وأشارت إلى أن العالم يواجه عدداً كبيراً من التحديات؛ منها التفسير الخاطئ للأديان، وأن الفن والتراث الإسلامي من أهم أدوات محاربة التطرف. وتأتي قيمة الفن الإسلامي في مواجهة التطرف من كونه مصدراً للتأمل في الجماليات ما يؤدي إلى الهدوء النفسي بين الأفراد والمجتمعات. ومن المعلوم أن الفنون تهذب الروح وتقومها، وأن صانعيها هم بالضرورة من المبدعين، ولا توجد روح مبدعة سيتسلل إليها التطرف أو تحاول إيذاء من حولها بل تجعلها أكثر رقياً وسمواً، وفق ما أكدته شلوتز. وأشارت شلوتز إلى أن النشأة الأولى للفنون الإسلامية، واكبت نزول القرآن، والذي كان آيات مقروءة بينما آيات الكون هي الآيات المنظورة وعبر عنها الفن الذي استمد جمالياته من الكائنات الحية والطبيعة وما تتضمنه من بحار وجبال وسهول وتدرج الألوان. وأوضحت أن كلام فلاسفة المسلمين خلص إلى أن التأمل في الجماليات يؤدي إلى الاتزان العقلي والهدوء النفسي على مستوى الأفراد والجماعات؛ لاسيما أن ثمة أخطاراً كبيرة تهدد حياة المجتمعات البشرية بخاصة في وقتنا الحاضر، ومنها الإرهاب الذي يحتاج إلى علاج جذري. ومع تنامي التطرف والإرهاب خلال السنوات الأخيرة نتيجة فهم خاطئ للدين الإسلامي ومن دون استناد إلى مرجع شرعي موثوق، واتخذ مرتكبوه من الإسلام شعاراً يتدثرون به لتبرير جرائمهم ضد الإنسانية، اتجه بعضهم إلى وصم الإسلام بالإرهاب على رغم أنه طاول البلدان الإسلامية، وفي المقابل ارتكبت التنظيمات الإرهابية جرائم كبرى ضد الآثار والمتاحف والتراث الإسلامي في العراق وسورية. كما امتدت تلك الأعمال الإرهابية إلى متحف الفن الإسلامي في القاهرة الذي دمرت واجهته وبعض محتوياته نتيجة هجوم وقع في العام 2014. وهذا المتحف هو أحد أكبر المتاحف الإسلامية في العالم، تأسس في العام 1903، ويضم مجموعات متنوعة ونادرة من الفنون الإسلامية من الهندوالصين وإيران مروراً بفنون الجزيرة العربية والشام ومصر وشمال إفريقيا والأندلس. فيما أسُتهدف أيضاً متحف باردو في تونس. وهو تأسس في العام 1888، وهو الأول عالمياً من حيث عدد قطع الفسيفساء الموجودة فيه. وفي ذلك ما يدحض زعم ارتباط الإرهاب يالإسلام، فحتى التراث الانساني للحضارة الإسلامية لم ينج من هؤلاء الإرهابيين، فالإرهاب استهداف للآخر، بينما نبذَ الفنُ هذا التطرف بل هو وسيلة لقبول الآخر وإثراء العلاقة بين المسلمين والمنتمين إلى أديان أخرى. وهو ما أوضحه الزميل محمد علي فرحات قائلاً: «دمّر تنظيم داعش التراث العظيم في بلاد ما بين النهرين، وهو في الوقت نفسه يبيع بعض القطع الأثرية. هذه ليست تجارة آثار بل استهتار بالأثر عبر بيعه من أجل شراء طعام أو سلاح وما شابه»، مشدداً على أن «الفن الإسلامي ليس أسلوباً منجزاً ولا كياناً مكتملاً ولا فكرة مغلقة، كما أنه ليس بالضرورة نتاج عقيدة تعطي مواصفات للفن الذي يلائم الدين، إذ لم يكن الفنان المسلم أو نظيره المسيحي أو اليهودي أو الوثني الذي يعيش في كنف الحضارة العربية الإسلامية يمتلك طريقة إسلامية للفن بل كان متروكاً في أحاسيسه لاختيارات التراث الذي ينتمي إليه ليبتكر فناً جديداً». ويعتبر فرحات الفن الإسلامي «مصطلحاً حضارياً أكثر منه عقائدياً؛ ذلك لكون الحضارة العربية الإسلامية شملت في زمنها بلداناً واسعة من حدود المغرب الأطلسية وحتى أواسط أوروبا، إلى القسطنطينية، ثم إلى حدود الصين... هذه المناطق الجغرافية الشاسعة احتوت أقواماً وحضارات ولغات وأساليب عيش مختلفة». وأضاف أن «ربَط الفن الإسلامي شعوباً بأخرى عبر نوع من التراضي المشترك وليس عن عقيدة». وأكد فرحات علاقة الفن الإسلامي بالآخر بقوله: «هو فن يجمع الأنا والآخر المختلف معه، وهو معاد للإرهاب والعنف المادي القائم على القتل والتفجير أو ما يشي بالإرهاب من الأفكار المتعصبة والمتحاملة والمنفصلة عن الآخر التي نجدها في بعض كتابات المعاصرين الخائفين العديمي الثقة بما هو إنساني». ورأى أن «الحضارة الإسلامية هي متواليات من البناء والإيجابية والتصالح؛ إذ احتضنت الآخر واعترفت به، وتليها محطات سوداء تخرب ما تم إنجازه ثم تليها إعادة بناء، وبهذا المعنى، وفي أيامنا الحاضرة يبدو الإرهاب شكلاً من أشكال إلغاء الآخر بالقتل والتدمير نتيجة العجز عن تطويع هذا الآخر بالقوة، وتضمّن ذلك تدمير المعالم الثقافية أو عدم الاعتراف بها في الأصل». الثقافة أداة قادرة على دحض الأفكار الهدّامة؛ وفق ما ذهب إليه ممثل هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام حمدان الكعبي؛ الذي قال إن التطرف بدأ بالانهزام أمام الثقافة والفنون التي تزخر بها أمتنا العربية، مؤكداً أن الفن الإسلامي هو أكبر مثال على التسامح. وطرح المؤتمر قضية عزوف الجمهور عن ارتياد المتاحف وحاول معالجتها. وأرجع رئيس دار الكتب والوثائق المصرية أحمد الشوكي ذلك العزوف إلى أبعاد اقتصادية، لجهة غلاء رسم الزيارة ويمكن معالجته عبر إتاحتها مجاناً ليوم واحد في الأسبوع. وأضاف: «لا يفترض أن يتم التعامل مع المتحف على أنه مخزن للآثار، وينبغي على المتاحف إقامة أنشطة تجذب الجمهور». «تعتبر الشعوب العربية زيارة المتاحف ترفاً، بينما تذهب إلى الملاهي حيث تنفق أضعاف ما تكلفه زيارة متحف»، تقول مديرة قسم قرطاج في متحف باردو؛ لمياء الفارسي، وتضيف: «يقع متحف باردو في وسط المدينة لكن لا يزوره سوى خمسة في المئة من إجمالي السكان، علماً أن هناك أياماً محددة على مدار العام يُسمح فيها بارتياده هو والمتاحف الأخرى في تونس مجاناً». ورأت أنه ينبغي على المؤسسات التراثية العمل على زيادة وعي الجمهور بتراثه وتاريخه وحضارته، «ليس كمسلمين أو مسيحيين لكن كبشر». ومن ضمن الأبحاث التي ناقشها المؤتمر، ما قدمه الدكتور محمد حسن عبد الحافظ من معهد الشارقة للتراث بعنوان «الرؤية الصوفية لجماليات الفنون الإسلامية،» والذي يعرض فيه صوغ خطة أوليَّة لمقاربة الرؤية الصوفية في جماليات الفنون في العالم الإسلامي، التي ترصد المفاهيم وتلتقط الظواهر الأساسية المتصلة بالموضوع، ابتداءً من مفاهيم جماليات الفنون والتصوف، وانتهاءً بمظاهر الإبداع الجمالي التي اختص بها الخطاب الصوفي وممارساته عموماً. وقدم حمدان كرم الكعبي؛ من هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام في دولة الإمارات العربية المتحدة، بحثاً بعنوان «الفن الإسلامي: الخصائص والسمات والمقاصد»، أوضح فيه أن غالبية البحوث في الفنون الإسلامية لا تزال معنية بالجوانب التاريخية أو الفقهية أو بالجانب المعماري والهندسي أو بعلاقات التأثير والتأثر بين الفنون الإسلامية وغيرها من فنون الحضارات الأخرى، من دون محاولة اكتشاف علاقة كل هذه الفنون بالمقاصد العامة للشريعة. وتقدم الدكتور يمين رحايل - أستاذ محاضر في الأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الفن في جامعة سكيكدة في الجزائر- ببحث عن «الفن الإسلامي ومؤشرات التفاعل الحضاري مع الآخر»، طرح فيه بعض التساؤلات المتعلقة بالفن الإسلامي وطبيعته ومدى مساهمته في تمتين روابط التواصل الحضاري بين مختلف الأمم والشعوب التي عرفت احتكاكاً بالحضارة الإسلامية، وماذا قدم الفن الإسلامي للحضارة الإنسانية؟ وما علاقته بالفنون العالمية؟ وكيف تعاملت الحضارة الإسلامية مع مختلف الفنون وتراث الأمم والشعوب الأخرى؟ وقدم الدكتور طرشاوي بلحاج من جامعه تلمسان في الجزائر ورقة بحثية عن «الفن من المحاكاة اليونانية إلى التجريد الإسلامي»، تلقي الضوء على واقع المحاكاة في الفن الإسلامي. وناقش الدكتور مبروك بوطقوقة من جامعة تبسة في الجزائر موضوع «الفن في المخيال العربي الإسلامي بين الجمالي والمقدس». ومن بين الأبحاث المقدمة أيضاً؛ ما قدمته الدكتورة مريم الدزيري؛ من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في سوسة (تونس) بعنوان «الإبداع في الفن الإسلامي كأداة للسمو النفسي – فن المديح النبوي في الأدب الصوفي- فريد الدين العطار وعمر بن الفارض نموذجاً». وشهد المؤتمر جلسات عدة تحت عنوان «مستقبل متاحف الفن الإسلامي والمواقع التراثية إلى أين؟»، و»لماذا يكره المتطرفون الفن؟»، تحدث فيها مشاركون من السعودية وتونس ومصر.