تبدو الأخبار الواردة من بريطانيا أشبه بأفلام الخيال العلمي بالنسبة إلى السيدة منى حليم وأسرتها المكوّنة من زوج وثلاثة أبناء في الدراسة الجامعية والثانوية وحماة. فالتقرير التلفزيوني المعروض عن إخلاء سكان 800 شقة موزعّة على خمسة أبراج سكنية في منطقة كامدن في لندن إثر «إشتباه في أن الكساء الخارجي للأبراج من مادة سريعة الإشتعال» بدا هزيلاً، وإن كان واقعاً فقد صنّف باعتباره استفزازاً للمشاعر واستهانة بظروف الغير المعيشية. ملامح وجوه الأسرة وهي تتابع تفصيل التقرير المصوّر تحتاج مصوراً ومخرجاً ومؤلّفاً مختصاً في فانتازيا الواقع. فالواقع في لندن يشير إلى أن الأبراج السكنية في بريطانيا تخضع لفحص وتدقيق للتأكد من سلامتها. وكان حريق ضخم التهم برج «غرينفل» السكني في قلب العاصمة البريطانية قبل أيام وأسفر عن وفاة حوالى 80 شخصاً فضلاً عن إصابات أخرى عدة. الإجراءات الاحترازية التي تتخذها الحكومة البريطانية تجاه سكان بقية أبراج بدت في غاية الغرابة ولم تجد من يفهمها بين القابعين أمام شاشة التلفزيون. فالتقرير يتحدّث عن نتائج تحقيق سريعة ودقيقة تشير إلى أن حريق «غرينفل» ربما نجم عن مشكلة في براد في إحدى الشقق، تطوّر وأتى على البرج بكامله لأن الواجهة الخارجية مغطاة بطبقتين من الألومينيوم بينهما مادة البوليثيلين سريعة الاشتعال، وهي المادة المستخدمة في نسبة كبيرة من الأبراج السكنية في بريطانيا. وتابع التقرير أن الحكومة قررت إجراء أعمال صيانة طارئة لحماية السكان الذين تم إجلاؤهم وتوفير غرف فندقية لمن لا صديق أو قريب له يقيم عنده. والمباني التي ستخضع للإصلاح والصيانة ذات وجهات خارجية قابلة للاشتعال السريع. «الحمد لله أن لا واجهة لعمارتنا من الأصل!»، الجملة التي قالتها منى لم تكن على سبيل الدعابة، بل على سبيل وصف واجهة المبنى. فالأسرة تقطن شقة صغيرة في عمارة كبيرة في منطقة كانت عشوائية اسمها «عزبة الهجانة» (شرق القاهرة)، لكنها تحوّلت إلى منطقة أبراج سكنية شاهقة لا تتطابق إلا في أن كلها مخالف وشيّد من دون ترخيص. واجهات العمارات المتلاصقة في العزبة عبارة عن طوب أحمر لم يكلّف مقاول البناء نفسه عناء طلائه. وإذا كانت هذه الحجارة ليست بمادة سريعة الاشتعال، كما هي الحال في أبراج لندن، فإن تفاصيل العمارة إما سريعة الاشتعال أو نذيرة كوارث أو منذرة بالسقوط. فبدءاً بالبناء المخالف على أرض مأخوذة بوضع اليد في ثمانينات القرن ال20، مروراً بتسوية مع الحكومة حيث سداد غرامة في مقابل توصيل الخدمات الرئيسة من مياه شفة وكهرباء وصرف صحي، وانتهاء بمصاعد لا تخضع للصيانة إلا بعد سقوط أحدها وأنابيب مياه لا تصلّح إلا بعد حدوث ثقب فيها وتسرّب الماء إلى جسم العقار لأسابيع أو أشهر كاملة. وهكذا يشير الواقع إلى أن الصيانة فريضة غائبة في غالبية العمارات السكنية في مصر. العمارة السكنية التي تسكن فيها أسرة منى حليم تسبح بين وقت وآخر في مياه الصرف الصحي الناجمة عن كسر متكرر في أنبوب الصرف الرئيس في عرض الشارع. كما أنها تحوي شققاً سكنية جددها أصحابها، فشملت الأعمال إزالة الأعمدة الخرسانية في داخلها، ما يعرّض المبنى بكامله لخطر داهم. وتتراوح التفاصيل الصغيرة بين مصعد متهالك سقط مرتين ب «ركابه»، وصنابير ومحابس مياه لا تعمل وتكتفي بتسريب الماء، وآثار شقوق في جدران الطبقات السلفى. تقول منى على سبيل المقارنة مع الوضع في بريطانيا حيث صيانة العمارات حفاظاً على حياة سكانها وليس لسهولة نقل جثامينهم بعد سقوط العقار على رؤوسهم: «نحن لم نسمع من قبل عن صيانة وقائية، بل إن فكرة الصيانة عينها غير واردة، فما بالك بالوقائية؟». العمارة حيث تقيم أسرة منى ليست استثناءً، بل القاعدة، ولكن بدرجات متفاوتة. ووفق دراسة عنوانها «صيانة المنشآت السكنية في مصر بين الواقع والمأمول» أجرتها مجموعة من أساتذة الهندسة في جامعة عين شمس، فإن مباني عدة باتت تتسم بكثرة مخالفات البناء. وقد رصدت الدراسة السمات الأبرز فيها، وهي: ارتفاع منسوب المياه الجوفية، عدم وجود ثقافة الصيانة، ضعف الإمكانات المادية من غياب قوانين ملزمة بإجراء الصيانة، وضعف الدور الرقابي للبلديات، وصعوبة إخلاء المباني وتوفير مساكن بديلة إلى حين إتمام الصيانة، وأخيراً تأثير الزمن على المباني وانتهاء العمر الافتراضي لكثير منها. وإذا كان هذا هو حال المباني ذاتها، فإن حال محتوياتها ليس أفضل بكثير. حمام السيدة منى يكاد ينهار على رؤوس الأسرة. فبين ترميم ظاهري للسقف الذي تشبّع بكميات مياه هائلة ناجمة عن التسرّب المستمر من حمام الجيران في الدور العلوي، وحصول حادث أو عطل في غرف النوم سببه عيوب بناء، وتلال قمامة متراكمة على سلم العمارة ما وفّر بيئة جاذبة للقطط الضالة وغيرها من صنوف الحشرات والزواحف، تظهر بين حين وآخر دعوات يتطوّع لها جيران لجمع مبالغ مالية وإجراء تصليحات. لكن الغالبية إما تماطل في السداد أو تسدد مبالغ ضئيلة أو تعتبر نفسها غير معنية بالأمر طالما دواخل شقتها لم يمسها ضرر بعد. غياب ثقافة الصيانة يمكن تفسيره إما بتغلّب ثقافة «المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين»، وفي أقوال أخرى «الحذر لا يمنع القدر» التي تسيطر على ملايين المصريين، أو من ضيق ذات اليد الذي يجعل من مصروفات الصيانة رفاهية لا تقوى عليها الغالبية، أو كليهما. تقول منى بعد مشاهدتها تقرير الصيانة الوقائية لأبراج لندن السكنية: «هم يحاولون منع البلاء قبل وقوعه، أما نحن فلا نتحرّك إلا بعد وقوع البلاء». وتضيف ضاحكة: «ثم إن أبراجهم لها واجهة، أما أبراجنا فمن دون».