في رحلة أشبه بالمارثونية تنطلق مسنة «ثمانينية» قاطعة طريق الملك فهد يومياً وتحديداً قبيل صلاة الظهر تجاه المسجد القريب من المتحف الوطني لتقف على بابه؛ لإشباع غريزتها في التسول، وهي من دون شك لا تعلم أن هناك متحفاً بجوارها، وتتسرب منه إلى بقية «النقاط الإستراتيجية»؛ لممارسة التسول، لتعود مع منتصف الليل إلى مسكنها الواقع في شارع «أبي الثناء البغدادي» بحي الوشام، راجلة، إذ لم يسبق أن أوقفت سيارة أجرة أو طلبت من أحد أن يوصلها. مرت أعوام عدة، وهي تحمل في يدها كيساً بلاستيكياً أزرق، كتب عليه «الفيصلية» بالعربية والإنكليزية، تضع فيه حاجاتها، من طعام زائد، وقوارير ماء يقدمها المارة، تعتصم بركن منزوٍ وتنحني دقائق، وهي تفرغ حمولتها من الريالات داخل الكيس، فتحدق في الريال، تتحسسه وتحاوره، فهو أكثر ما يجود به عليها المحسنون، تربّت عليه، وتحشره بين القوارير. عُرفت هذه المسنة منذ أن كانت تسير بقوام غير مائل، إلا أن الأعوام حولتها تدريجياً إلى منحنية، وعلى رغم انحنائها فربما ما زالت الأكثر سيراً على الأقدام في السعودية، إن لم يكن في دول التعاون الخليجي كلها، وحذاؤها الدائم «شبشب بلاستيكي أبيض» تركته جانباً، لتتنفس قدماها معظم فترة وقوفها أمام المحال. تستحق هذه المسنة دخول موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية في المشي، إذ ظللت أراقبها منذ أعوام، وهي تقطع المسافات والشوارع والإشارات الضوئية قبل الظهر، وتعود مع منتصف الليل بكيسها الأزرق الذي وضعته في آخر أبيض، حديثاً، ربما للتطوير، أو لعل جوانبه اهترأت مع الزمن فساندته بآخر. في إحدى الأيام اقتربت منها مسائلاً: «كيف حالك يا حاجة» ولا أدري إن أكرمها الله بالحج، فأجابت عيونها «هات الريال وحل عني»! بقيت شفتاها مطبقتين، وأنفها منغمس بروائح فول الطاوة والعدس العدني المنبعث من مطاعم الفوالين القريب والممزوج بشرائح البصل والفلفل ورغيف التميس، وأصوات الزبائن تتداخل «هات شاهي» و«مويه» وآخر «كثر بصل وزود البهارات» ترقبهم جميعاً وتنتظر شبعهم لتتلقفهم باستعطاف على الباب. جمعيات خيرية كثيرة ربما صادفت تلك المسنة التي التصقت أقدامها بعتبات ما يعرف ب«شارع الفوالين» بعد كل صلاة على مدار الأعوام بلا عطلة صيف أو نهاية أسبوع أو انتهاء دوام، ترى هل توقف أحدهم ليأخذها إلى دار المسنين أو يبحث لها عن عائلة أو بصيص أمل؟ في مقابل وقوفها تماماً انتصب مركز لشرطة المربع خاص بكشف التزييف استمر سنوات، ثم رحل، والحال كذلك بالنسبة إلى مطعم الحمص والفلافل ومحل الهواتف المحمولة والتموينات الملاصقة ومحل بيع الساعات، وحتى سوق السمك القريب منها، كلهم حضروا وغادروا إلا هي بقيت صامدة. رأيت كثيراً من السيارات الفارهة تتوقف بجانبها، وتنزل صبية أو طفلة تقدم لها حسنة، لكن لم يتوقف أحد ليسأل عن سكنها ومواصلاتها وصحتها وتاريخها الحافل بالتسول. هل فكر أحد أن يجاري رحلة سيرها مشياً، ذهاباً وعودة، من حي الوشام باتجاه الوشم وأطراف حي المربع، المحطات المكوكية التي تتوقف عندها يومياً وفي أوقات دقيقة، على رغم أنها لا تملك هاتفاً محمولاً أو ساعة تعكس دقة بصيرتها الفطرية والعفوية. أرجل المسنة ربما تختزل تاريخ تلك الأحياء قبل السفلتة والعمران والأبراج، فهي أرشيف يعرف كل الوجوه، ويعرف أحوال الناس وظروفهم بمقدار إحسانهم، فمن يطرق باب الوشم والوشام يجدها لا تحتاج إلى مال، فربما جمعت كثيراً خلال عشرات الأعوام، لكنها بالتأكيد تبحث عن فارس يرسم لها نهاية مشرفة، فهي لا تعرف أن ترسل «بريداً إلكترونياً» لوزارة الشؤون الاجتماعية أو برقية عاجلة لكبار المسؤولين. على رغم المسير المتواصل طوال عقود بين الأحياء، فإنه يبدو أن «مارثونية» الرياض، بدأت أخيراً تغازل مركبات الليموزين وتستعطفهم.