استقبل أمين عام مجلس جازان.. أمير تبوك: المرأة السعودية شاركت في دفع عجلة التنمية    عقوبات مالية على منشآت بقطاع المياه    «ستاندرد آند بورز»: الاقتصاد السعودي سينمو 5 % في 2025    المملكة وتوحيد الصف العربي    «مالكوم» يا أهلي !    «الدون» في صدارة الهدافين    لصان يسرقان مجوهرات امرأة بالتنويم المغناطيسي    فهد بن سلطان يقلّد مدير الجوازات بالمنطقة رتبته الجديدة    مؤتمر لمجمع الملك سلمان في كوريا حول «العربية وآدابها»    «أحلام العصر».. في مهرجان أفلام السعودية    هل تتلاشى فعالية لقاح الحصبة ؟    اختبار يجعل اكتشاف السرطان عملية سريعة وسهلة    وزير الحرس الوطني يستقبل قائد القطاع الأوسط بالوزارة    ريادة إنسانية    قصف إسرائيلي مكثف على رفح    أبو الغيط يحذّر من «نوايا إسرائيل السيئة» تجاه قطاع غزة    وزير الدفاع ونظيره البوركيني يبحثان التعاون والتطورات    القيادة تعزي البرهان في وفاة ابنه    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة من الهلال    مالكوم: فوز ثمين.. وجمهور الهلال «مُلهم»    الهلال يتغلب على الأهلي والاتحاد يتجاوز الابتسام    أبو طالب تقتحم قائمة أفضل عشر لاعبات    فريق القادسية يصعد "دوري روشن"    ثتائي آرسنال على رادار أندية روشن    أخضر تحت 19 يقيم معسكراً إعدادياً    استمرار الإنفاق الحكومي    افتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي.. الصمعاني: ولي العهد يقود التطور التشريعي لترسيخ العدالة والشفافية    وزير العدل يفتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي في الرياض    فيصل بن بندر يدشّن سبعة مشاريع لتصريف مياه السيول والأمطار في الرياض    أنسنة المدن    اختتام "ميدياثون الحج والعمرة" وتكريم المشروعات الفائزة والجهات الشريكة    فنون العمارة تحتفي بيوم التصميم العالمي    تعليم مكة يدعو المرشحين للمشاركة في «أيتكس»    الميزان    أكدت أن الجرائم لا تسقط بالتقادم.. «نزاهة» تباشر قضايا فساد مالي وإداري    ولي العهد يعزي رئيس الإمارات    اكتشاف الرابط بين النظام الغذائي والسرطان    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. وصول التوأم السيامي الفلبيني «أكيزا وعائشة» إلى الرياض    بكتيريا التهابات الفم تنتقل عبر الدم .. إستشاري: أمراض اللثة بوابة للإصابة بالروماتويد    الحرب على غزة.. محدودية الاحتواء واحتمالات الاتساع    جواز السفر.. المدة وعدد الصفحات !    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال21 من طلبة كلية الملك عبدالله للدفاع الجوي    الهواية.. «جودة» حياة    يتوارى البدر.. ولكنه لا يغيب !    المسافر راح.. وانطفى ضي الحروف    مناورات نووية روسية رداً على «تهديدات» غربية    الشورى: سلامة البيانات الشخصية تتطلب إجراءات صارمة    "آل هادي" إلى رتبة "لواء" ب"الشؤون القانونية للجوازات"    اجتماع سعودي-بريطاني يبحث "دور الدبلوماسية الإنسانية في تقديم المساعدات"    إخلاء شرق رفح.. السكان إلى أين؟    «مهرجان الحريد».. فرحة أهالي فرسان    أمير منطقة تبوك يستقبل أمين مجلس منطقة جازان ويشيد بدور المرأة في دفع عجلة التنمية    خطط وبرامج لتطوير المساجد في الشرقية    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    القبض على مروج إمفيتامين مخدر    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاهد من قلب الحدث.. يروي فصول (تسونامي جدة).. (الحلقة الثالثة) .. قويزة.. فاقت على مشهد الدمار.. تكشف حكايتها المأساوية لأهلها المفجوعين
نشر في البلاد يوم 07 - 12 - 2009


جدة - قويزة -بخيت طالع الزهراني ..
اللحظات مهولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. والحدث أكبر من الكلمات، وأعظم من محاولة الوصف، ولو قيل لي إن (تسونامي جدة الهادر) وهذا هو وصفه الصحيح من وجهة نظري. لو قيل لي إنه قد اجتاح جدة، في ظهيرة الأربعاء الثامن من ذي الحجة 1430ه، وبذلك الشكل المروع، لما صدقت أبداً.. لكن ولأنني كنت شاهداً على (المأساة المروعة) وواقفاً على ضفاف (الحدث الجلل) من نافذة منزلي، التي كانت تُطل على واحدة من الأمواج الهادرة من السيول، التي اجتاحت (حي قويزة) الوديع، الرابض في شرق مدينة جدة، فقد عشت حقيقة فصلاً مذهلاً من المأساة، أشبه بيوم القيامة، وهنا شهادتي على الحدث (الحلقة الثالثة):
وعندما كان الوقت في منتصف المسافة بين العصر والمغرب، وكان أهالي شرق جدة، ومن أولهم أهالي حي قويزة قد خرجوا إلى الشوارع المحاذية لبيوتهم يستطلعون آثار السيل المدمر، وقد كنت واحداً منهم، أتلمس موطئاً صغيراً لقدمي، وسط وحل هائل يلف المكان، والذي كان محظوظاً أن أفراد عائلته كانوا معه داخل البيت، أو أنه قد اطمأن على حياتهم بعد انحسار السيل، إما عبر الاتصال بالهاتف، أو بالعودة إلى البيت مشياً على الأقدام لأن المجال لم يعد يسمح بحركة السيارات، وسط شوارع إما مهشمة، أو متشققة ومحفورة، أو مسدودة باكوام من السيارات التي تفنن السيل في وضعها فوق بعض بشكل وحشي.
دموع لا تنسى
جاري الشاب علاء يسألني: أبو يوسف هل رأيت والدي؟.. قلت: نعم لقد رأيته قبل ساعة فوق سطح منزلكم.. قال: لكننا - أنا وإخوتي - فتشنا عليه في كل مكان بالبيت وفوق البيت ولم نجده ؟ قلت: إذن سأتصل عليه (هكذا فكرت.. ولعلَّه يرد عليَّ فأكسب فرحتهم).. وعلى الطرف الآخر من الخط جاءني صوته الشاحب: نعم.. قلت: أين أنت، وهل أنت بخير.. رد عليَّ: أنا بخير.. قلت: إذن خذ معك ابنك علاء يريد أن يطمئن عليك.. وناولت علاء هاتفي الجوال ليتحدَّث مع أبيه.. ثم شاهدت الدموع تنهمر من عينيه فرحاً بصوت أبيه (تلك الدموع لا يمكن أن أنساها أنا شخصياً طول عمري - "يا .. للوعة" عندما يدخل اليأس في قلبك.. ثم تجد أن أعظم من تحبه "والدك" مازال حياً وسط كارثة كهذه.. وراح علاء يكفكف دموعه بيده الملطخة بالطين، ويحث والده على العودة السريعة، وعدم الاكتراث بالسيارة الميكروباص التي ذهبت، وهي مصدر رزقهم الوحيد، وسمعته يقول لوالده: ارجع.. السيارة في داهية.. المهم أنت!!
طوق النجاة
الآن لابد أن أبحث لي عن سيارة - سيارة مستأجرة - بعد أن ذهبت سيارتي إلى الجحيم، ولا أدري حتى اللحظة أين استقرت.. بينما سيارة ابني الكبير مازالت واقفة، كانت في زاوية لم يشأ السيل أن يستخرجها منها، حركها بشكل انفعالي، ثم صفع زجاجها حتى حطمه، وراح يتجول فوق مقاعدها بوحله وأشواكه وغثائه حتى صارت مترعة، وتركها حُطاماً، وفي لحظة قدرية كان يقف أمامي صهري "راشد" الذي قَدِمَ من الدمام لقضاء العيد في "عروس" البحر الأحمر (!!) لقد كتب الله له ولسيارته النجاة، عندما غادر منزلنا في وقت مبكر، قبيل بدء (حفلة السيل المرعبة) وقد هرب من السيل بسيارته إلى أعالي جبال حي قويزة، هناك حيث مركز الرعاية الصحية الأولية، وأوقف سيارته وجاء ليطمئن علينا وعلى زوجته وابنه الصغير.. وكما أسلفته فقد وجدته أمامي، وكان بمثابة طوق نجاة، أرسله الله تعالى لي، ليوصلني إلى خارج الحي المنكوب، الذي لم يعد يتحرك فيه متحرك بقدرة قادر، وكان علينا أن نخوض المياه والوحل بأقدامنا العارية، إلى الجبل، حيث سيارته تقف هناك، وبعد معركة مشي مذهلة كنت خلالها أعتمد على عصا طويلة في يدي، أغرسها عند مقدمة كل خطوة أخطوها، لأن الكان تحول غلى حفر تحت الماء، وطرائد مفزعة، يمكن أن تبتلع المارة، دون أن تترك فرصة أن "يُسمِّي على نفسه".. وبعد رحلة عذاب مع المشي في الوحول التي تصل إلى منتصف الأرجل، بلغنا السيارة، ثم قذفنا بأنفسنا في داخلها، ويممنا صوب حي الجامعة لاستئجار سيارة.
السيارة الأخيرة
وفي مكتب تأجير السيارات،خدمني الحظ بأن وجدت آخر سيارة، وبدون أن أُفاصل قبلت شروطهم، ولم أُصدق نفسي أنني وراء مقود سيارة أقودها بنفسي، كان كل همي أن أقوم بإجلاء عائلتي من الحي المنكوب إلى حيث النجاة عند أقاربنا في الأحياء الآمنة، كان الوقت حينها ليلاً، بعد صلاة العشاء، مررت بأكثر من محل لابتياع كشاف أو شموع، لكن المفاجأة غير المتوقعة أو المتوقعة - لا أدري أن كل محلات حي الجامعة والسليمانية، قد نفدت منها الشموع والكشافات.. يا للهول!!
نفاد الشقق المستأجرة
عدت إلى الحي يحملني إصرار عجيب على اقتحامه بهذه السيارة الصغيرة، قليلة الحيلة في مثل هذه الظروف، اخترت مكاناً من شرقي الحي، لعلي أجد فيه خرم إبرة، توصلني إلى بيتي، أو إلى مقربة منه على الأقل، لأحتوي عائلتي وأفرُّ بها من المكان الموحش، ساعدني الله تعالى حتى وصلت من بين السيارات المكدسة إلى قرب بيتي، واستطعت إجلاء أهلي، إلى حيث بيت أقاربنا، أما أنا فقدت ظللت طيلة الليل أبحث عن غرفة مستأجرة، وقد وجدتها بفندق صغير في شارع فلسطين مع طلوع شمس اليوم التالي، وبعد أن تسلمت المفتاح اندفعت إليها كمذعور قادم من غابة شرق آسيوية مليئة بالوحوش الفاغرة عن أفواهها النهمة.
موعد مع القدر
وفي لحظة استرخاء أشبه باستراحة محارب، راح شريط يوم الأربعاء الحزين يمر في ذاكرتي، كأنه مقطع سينمائي لمخرج عظيم، حشد له كل أسباب النجاح، وسخَّر له أموالاً طائلة، ليخرج بتلك الصورة الموغلة في التراجيديا، المشهد كان يمر فوق جمجمتي، ينقطع تارة، ثم يتواصل أخرى، فهذا جارنا المالكي الشيخ الطاعن في السن وطيب القلب، ويحضه أهله على أداء صلاة الظهر في ا لبيت، لأن الامطار غزيرة، لكنه يقهقه فيهم، غير مبال بالمطر قائلاً: من الذي يدع المسجد من أجل "شوية" مطر.. ربما لم يكن يعرف أنه سيتحول إلى سيل جارف، وربما لأنه كان على موعد مع القدر، حملته قدماه للمرة الأخيرة إلى مسجد العروة الوثقى، وهناك فاضت روحه الكريمة إلى بارئها - رحمه الله - بعد أن حاصره السيل، وبلغ أكثر من متر ونصف داخل المسجد، ولم يستطع أن يجد طريقه إلى النجاة فوق سطحه.
اختفاء أحمد
وهذا (أحمد) الطفل المغربي، الذي كان يتفجر حيوية وذكاء وصاحب العشر سنوات، يُغافل والدته ويخرج من البيت رغماً من إرادتها إلى المسجد، في غمرة اهتمامها بتنظيف البيت من آثار المطر، قبل وصول السيول الجارفة، يقول لي حارس المسجد البنجلاديشي إنه وجده عند باب المسجد حائراً أمام الطوفان، فأمره أن يقف في مكانه ولا يتحرك أبداً، ودخل العامل للمسجد يستطلع الأحوال لعلَّه يجد له وللطفل طريقاً للصعود مع الصاعدين إلى سطح المسجد، وعندما عاد بعد برهة قصيرة لم يجد أحمد، لقد غاب وسط أمواج السيل المندفع كالجبال.. وتحوَّل جسده الغض إلى مفقود ضمن عشرات المفقودين، الذين ابتلعهم السيل الغاضب.. بينما لازالت أمه وأبيه الذي يعمل بإحدى شركات السيارات بجدة، يأملان بأن يدخل ذات لحظة من باب دارهم سالماً.
الصبية المغدورة بالسيل
وهذا الأخ رجب الحاوي يحكي لي راوية أشبه بالخيال، تختلط فيها الدموع والحزن مع الفزع والرعب.. عندما وجد نفسه وهو غير بعيد عن داره أمام جثة صبية في العشرين من عمرها، ممددة وسط الوحل المكتظ بالمياه، كان المشهد مهولاً لبنت في ريعان شبابها وقد اختطفها السيل الغادر، وتركها مضرجة بثياب الموت المروع، فلم يلبث أن منحها كساء على جسدها، ثم حملها إلى الرصيف المجاور، في مشهد يتفطَّر له الحجر قبل القلب، وكواحدة من مفردات العذاب الذي حمله سيل يوم الأربعاء الحزين، الذي داهم حي قويزة على حين غرة، واقتلع كل من كان يعبر الطريق، ومن ذلك الأطفال أو الذين كانوا إما ذاهبين أو عائدين من البقالات.
عندما هوى الشاب
وهذا شاب في العشرينات من عمره، وطالب جامعي، والدته معلمة ممن تعرفهن زوجتي، كان قد قاوم بدايات السيل حتى وصل إلى فوهة عمارتهم، وبعد أن فتح باب سيارته، اختفطه السيل، من باب السيارة، ليزحف في غضب عارم إلى حيث المجهول، وليتم قيده ضمن أعداد الغرقى الذين استشهدوا، ولقوا وجه ربهم في تلك الظهيرة، التي ربما لم تعرف مدينة جدة مثيلاً لها في حجم الترويع والمآسي، وليترك لوالدته ووالده وأقاربه الحسرة والدموع، بعد أن افتقدوه، فلم يجدوا على الباب سوى سيارته التي بدأت تتحول هي الأخرى إلى طريدة من طرائد الأمواج الهادرة للسيل.
ثلاثة ذابوا فجأة
وهذا الأخ الشيخ غرم الله الغامدي، الرجل الطيب المفعم بروح الإنسانية، يهاتفني مساء، بعد أن "وضعت الحرب أوزارها" وليلقي على مسامعي حكاية جديدة، ومن حكاوى الدمع والحزن العظيم، عندما نقل لي قصة أحد الإخوة الذين كان بيتهم في شرقي الحي، يقول، عندما بدأت أولى طلائع السيل فكر جارنا في الهرب بأسرته وعندما كانوا حول السيارة يهمون بدخولها اختطف السيل الهائج ثلاثة من صغاره دفعة واحدة، اختطفهم من أمام عينيه، وهو يهم بإدخالهم إلى جوف السيارة، في محاولة يائسة لإجلائهم من وجه الطوفان،وبعد أن فرغ الأخ غرم الله من سرد هذه الحكاية الدرامية الدامعة،كنت أتحسس دمعة ساخنة، وقد اندلقت من مقلتي، فهذه الحكاية لوحدها تعتبر فصلاً خاصاً من فصول الأربعاء المروع، الذي حول (قويزة) وما حولها من أحياء الى مدينة أشباح حقيقية، كأنها للتو قد خرجت من تحت معركة حربية ضارية، شهدت كل أنواع أسلحة الدمار الأرضي والجوي.
صراع الكرى
حاولت أن أُغمض عيناي المتعبتين، لعلي أستريح من وجع استرجاع شريط (الأربعاء المذهل) وتذكرت أنني لم أتناول طعاماً حتى هذه اللحظة منذ (الفطور الأخير) في بيتنا قبيل المأساة، وربما لم أشرب ماء كذلك، لا شيء وسط يوم الرعب يحفزني على الاستجابة لنداء بطني، الذي يبدو أنه صام مرغماً مع الصائمين في ذلك النهار الهائج ..
موت وخراب ديار
في صبيحة اليوم التالي ليوم السيل العظيم كانت الدنيا تعلن انه يوم عرفة الطاهر، كان معظم اهالي جدة يعيشون الرعب بعد نهار طحنتهم فيه سيول الاودية الشرقية للمدينة، والتي جاءت منقولة وبعد ليلة عذاب عاشوها اما بين الظلام الحالك او الشموع في الاحياء المتضررة او وسط محاولات مضنية للغاية من ارباب الاسر لإجلاء اسرهم من المواقع المنكوبة لكن قاصمة الظهر كانت للناس الذين فقدوا آباءهم او امهاتهم او عدداً كبيراً من اسرتهم او احد ابنائهم او اكثر من ذلك، فقد كان حالهم (موتاً وخراب ديار) وظلت الاشكالية العظمى، كيف يمكن الوصول الى من فقدوه كان الأمل يتصارع مع اليأس لحظتها، أملاً بأن يعود الغائبون ويأساً من أنهم لن يعودوا، فهل يعقل ان يخرج من تحت مطحنة هذا السيل العرمرم أحياء، ومن هي تلك الاجساد التي تقوى مصارعة جبال من امواج المياه الغاضبة، اذا كانت الشاحنات الكبيرة قد خارت قواها امام هذا الغضب وتحولت الى ما يشبه الخردة.
شوارع البسكوت
بزغت شمس يوم عرفة لتعلن للاحياء المنكوبة في شرقي جدة انه يوم عرفات مختلف كلياً عن تلك التي عرفوها طيلة حياتهم وهناك من نوى الصيام، ثم تراجع كما قال لي بعد ان وجد نفسه منذ الصباح الباكر يعود متثاقلا من مكان نجاته البارحة الى الحي والاحياء المنكوبة، يتفقد داره ويحاول البحث عن اهم اشيائه، وأعز محفوظاته ومدخراته، كان عملا كبيرا فعله الناس منذ شروق الشمس وسط حركة حذرة، فالشوارع "البسكويتة" التي كانت تتأثر برشة صغيرة من المطر كيف سيكون حالها مع هذا السيل الجارف، كل الشوارع صارت بحيرات والخوف ان ينهار هذ الشارع، او ان تنشق الارض تحت كل حركة لاي سيارة، فتبتلعها بمن فيها لتبدأ بعد ذلك مأساة جديدة.. ومن الطرائف كما ذكرها لي صديقي ابو محمد ان تاجر الاغنام الذي يتعامل معه اتصل عليه يحثه على الحضور لاخذ اضحيته فرد عليه ابو محمد: ( يا اخي انا في ايه.. والا ايه؟) واردف قائلا: (ان كنت ضقت ذرعاً بها فاطلقها في أرض الله - أنا لا اريدها)!!
اختلط الحابل بالنابل
كان حي قويزة وهو أكثر الاحياء المتضررة قد تحول من حي منسي ومن حارة وديعة لا احد يعرفه او يدري مكانه الى عنوان عريض والى اسم يتردد على كل لسان داخل البلاد، بل وعلى وكالات الانباء العالمية، ويمسح جزءاً من كميات الوحل العظيم الذي وصل الى قمة رأسه وبدأوا يرددون عبارة واحدة عندما تصافح وجوههم وجوه بعضهم: (الحمد لله على السلامة) (هاه.. عسى اهلك واولادك سالمين) وبدأت الاسر التي خرجت من تلك الركام سالمة، غير مصدقة أنها قد نجت، فيما الاسر الاخرى التي فقدت واحداً او اكثر موزعة بين دفن جثامين من مات تحت بصرهم او في مواصلة البحث عن مفقوديهم في رحلات مكوكية غاية في الصعوبة حيث اصبح الانتقال بين حي وآخر داخل جدة حتى في الاحياء التي لم يصبها ضرر كبير، اصبحت الطرقات موحلة ومترعة بالمياه وزاد ذلك مشاريع اقامة الجسور التي تنفذها امانة جدة حيث ازدحمت الطرقات وغاب التنظيم المروري للسيارات ورأيت في تقاطع شارع الامير ماجد مع شارع عبدالله السليمان حيث هناك مشروع يجري لإقامة جسر، رأيت اعجوبة من عجائب التلبك المروري فعبور عنق الزجاجة في ذلك المكان كان يحتاج الى الساعات وليس الى الدقائق وسط حالة عصيبة يعيشها الناس خصوصا المنكوبين الذين يريدون ترتيب احوالهم وغابت في هذا اليوم ما يعرف بفن (ادارة الكوارث) وكشفت الجهات الرسمية المختصة عن هشاشة آلياتها وضعف امكانياتها وقلة حيلتها حتى انني وجدت في هذا المكان الذي اشرت اليه آنفاً عدداً من الشباب المتطوع الذي هرع لتنظيم السير، نيابة عن المختصين الذين غابوا!!
وفي هذه اللحظات العصيبة من اليوم التاسع من ذي الحجة 1430ه كان الدفاع المدني يعلن عن توفير شقق سكنية للاسر المتضررة وبدأ الناس يتوافدون على المقر الرئيسي في شارع الملك فهد، خلف مخابز بدرة، وكنت واحداً من الذين حصلوا على شقة، اما في مساء ذلك اليوم فقد هب الملك الانسان الملك الصالح المحب لشعبه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليعلن في قرار ومبادرة تاريخية عن تقديم مليون ريال لكل اسرة فقدت واحداً من ذويها، وفي قرارات اخرى اشفت صدور المواطنين واعادت لهم الطمأنينة بعد الخوف من ان هناك لجنة برئاسة سمو الامير خالد الفيصل امير منطقة مكة المكرمة لمعرفة اسباب الكارثة ولمحاسبة المقصرين ولاجتثاب الفساد والمفسدين.
غياب الجمعيات
وكان علي في ذلك المساء ان اعود مثل غيري اتلمس طريقي بحذر الى الحي الذي اسكن فيه حي قويزة بعد ان ابتعت عدداً من الشموع والكشافات والفوانيس والكيروسين حتى اتمكن من اضاءة مدخل بيتي وجزء من سلالمه، امام من بقي في البيوت من الحراس ونحوهم ولنعود لهم ببعض الخبز وماء الشرب بعد ان غاب رجال الاعمال والجمعيات الخيرية في مشهد بدأ للوهلة الاولى مخجلاً حتى العظم فقد كان اهالي الاحياء المنكوبة يتوقعون وقفة عظيمة من هؤلاء امام اخوانهم من الأسر المتضررة، كما هو حالهم عندما تعم الفيضانات بنجلاديش وكشمير وباكستان ودول افريقيا، واذ بهم حتى اللحظة يسجلون صفراً على الشمال في خانة الاغاثة السريعة، حتى ان جارنا أبا عبد الرحمن قد حدثني عبر الهاتف وهو غاضب وساخر في وقت معاً قائلاً "هناك من مرّ علينا، يوزع علينا بسكوتاً، وكأننا أطفال"!!
استخراج الجثث
ورأيت الدفاع المدني وقد اقام مركزاً في حي الراية على قمة جبل، في احدى الاستراحات، ودخلت في حوار مع عدد من المسؤولين فيه، مطالباً اياهم بأن يكون مقرهم وسط الحي المتضرر في خيام واسعة، ليكون أكثر قرباً من الحدث، واقترحت عليهم الساحة الكبيرة امام مسجد (العروة الوثقى) شرقي حي قويزة، لكن يبدو أنني كنت اتحدث عن شيء خيالي (!!!).. وخلال تجوالي بالحي رأيت الناس يحملون المصابيح والمساحي ، ويحفرون هنا وهناك كلما توجسوا أو توقعوا أن يكون في هذا المكان أو ذاك جثة لمفقود، طمرتها الوحول والرمال، وبالفعل استطاع عدد منهم استخراج عدد من الجثث بمساعدة الدفاع المدني، الذي بدأ يدخل أجواء العمل وسط حطام المأساة المروعة.
وفي صبيحة يوم العيد، لم تشأ احياء قويزة والصواعد والحرازات وغيرها من الاحياء المتضررة أن تلبس ثياب العيد هذه المرة، فقد استقبلت عيد الاضحى بثياب بالية، ونفوس متعبة، واعصاب تالفة، ووجوه كالحة، مازالت آثار الفجيعة مرسومة فوقها بوضوح شديد، وتعطلت الصلاة جماعة في كل مساجد الأحياء المنكوبة، بعد أن غمرتها المياه إلى المتر والنصف أو أكثر، واتلفت المفارش، واقتلعت المصاحف من أرففها، وهوت المكيفات على وجوهها، وتحولت إلى مشاهد من الأشباح.
لم نر العيد !!
وللمرة الأولى في حياتي، لم أرد على تهنئة العيد عبر الجوال الا بعد ثلاثة أيام ، ولم تسمح لي الظروف بزيارة أقاربنا للمعايدة، وربما كان هذا هو حال كثيرين غيري من أهالي الاحياء المنكوبة، حتى ان صديقاً لي من الدمام عاتبني بعد أيام، لكنه عندما عرف بما حلّ بنا، التمس لي العذر، والواقع اننا نحن اصحاب الاحياء المتضررة، لم نر العيد ولم نشاهد اطلالته، بل ولم يسمع عنه الاطفال ولا النساء، الذين كانوا اكثر الناس هلعاً وخوفاً من آثار الصدمة الهائلة التي اجتاحتهم، ولا ابالغ ان قلت ان بيننا من اختلطت عليه ارقام الأيام، فلا يدري هل اليوم هو يوم عشرة، أو يوم تسعة؟!!
من أين جاء؟
وظل السؤال الذي تردد كثيراً في اليومين التاليين للفاجعة.. من أين أتى هذا السيل الكثيف؟.. وبدأ الناس يتبينون آثاره وملامح اتجاهه، لقد فاجأ جدة من أودية (وادي قوس، ووادي عشير، ووادي مريخ) وتضم أكثر من 25 حياً بين أحياء مخططة وأخرى قائمة كأمر واقع.. ويأتي وادي قوس كأقرب الأودية إلى حي قويزة وما جاوره من احياء معتمدة، مثل السليمانية الشرقية، والصواعد، والنخيل، والبساتين، وغيرها من الاحياء غير المعتمدة كالبركة والجزيرة وطيبة وغيرها.
وادي قوس المجاور لقويزة يبدو أنه تنكّر للجوار وغرس خنجره في خاصرة الحي الوديع، ولم يتركه الا وهو ركاماً ينتحب، بينما سطا وادي عشير بمياهه الغادرة على عدة أحياء جنوب شرق جدة حول طريق مكة، في احياء المحامين وشمال الحرازات والقادسية.. أما وادي مريخ الذي يتخذ ناحية الشمال الشرقي من قويزة، فقد انشب اظافره المؤلمة في أحياء الخير، والناصفة، والنخبة وعدد من الاحياء غير المسماة هناك.
وبقيت الدهشة قائمة من خلال هذا السؤال.. هل يمكن لهذه الأودية الثلاثة في شرقي جدة أن تظل سيفاً مسلطاً على نصف جدة الشرقي؟!!.. وأين الفكر الاستراتيجي للقائمين على شؤون المدينة من ايجاد مصارف لسيول هذه الأودية؟، بحيث يمكن لها أن تحمي الناس والممتلكات من الانجراف مع السيول الهادرة، حتى ولو كانت لا تأتي الا بعد كل عقد من الزمن!!..
شبح "الفوبيا"
واختم هذه الحلقة بالحديث عن حالة الخوف التي انتابت الناس، الذين سرح ومرح السيل في أحيائهم، وشاهدوا عنفوان اندفاعه، وسطوة هديره، وما ألحقه بالعباد والبلاد من وفيات وتلفيات وعذاب نفسي، والأخيرة وهي الألم النفسي تكاد لا تقل خطورة عما سبقها، وحتماً فإن حالة من "الفوبيا" أو الفزع الهائل قد ملأت أفئدة الكبار والصغار، النساء والرجال، الشيوخ والأطفال.. وأظن أن النساء والأطفال خصوصاً هم أكثر من دمرت السيول نفسياتهم، ولقد وقفت على حالات كثيرة من الذين ما زالوا حتى اللحظة يعيشون في حالة (عدم توازن نفسي).. فعدد من النساء لم يتذوقن طعم النوم لعدة ليال بعد ليلة السيول، وكثير من الشباب اصاب السيل نفسياتهم في مقتل.
وهؤلاء جميعاً بحاجة ماسة للغاية إلى اعادة تأهيل نفسي، ومنهم من يحتاج إلى جلسات علاج أو إلى الأدوية، أو إلى كليهما معاً، ولكن للأسف ما زال حديث المختصين واهتمامهم بهذه الناحية، ضمن جهود فردية صغيرة، وضمن نطاقات جهود محدودة.. أما إذا أردت أن تقيس نفسيات العديد من الذين ضربت السيول بيوتهم، فانظر إليهم عندما تتكون تشكيلات السحب في السماء، وعندما تبدأ السماء تمطر، حتى ولو كان مطراً خفيفاً، ثم بعد ذلك أخبرني كيف تراهم؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.