الشعراء وهم في كل واد يهيمون، ينتزعون من سماء الخيال معاني شاردة. فمن الصور الشعرية الباهرة الطيبة قول الشاعر: وقفت بباب الله وقفةَ ضارعٍ وقلت إلهي إنني لك قاصدُ ولست تراني واقفًا عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقدُ وقد درج على ألسنتنا التعبير عن ذلك في عصرنا بكلمة دراما. وهي كلمة غير عربية. لكن الأديب حسن الكرمي- رحمه الله- صاحب برنامج قول على قول في إذاعة لندن قبل أربعين أو خمسين عامًا ترجم لفظ دراما بكلمة: جاهر. جاء ذلك في القاموس الضخم الذي سماه "المغني الكبير". وهو يقصد الشيء الذي لا يخفى كما نقول أحيانًا: فعل فلان ذلك جهارًا نهارًا. وأوكلت جامعة أوكسفورد إلى ستة من علماء اللغويين بإشراف الدكتور محمد بدوي تأليف قاموس انجليزي عربي؛ فترجموا لفظ دراما بكلمة مثير. وهناك الألوف من الأبيات الدرامية تفننت بها قرائح الشعراء؛ مثل قول حسان بن ثابت- رضي الله عنه- في وصف سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم: خلقتَ مبرأً من كل عيبٍ كأنك قد خُلِقتَ كما تشاءُ ولأحمد شوقي في شمائل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بضعة عشر بيتًا ضمن قصيدة الهمزية بدأها بأداة الشرط. ومنها: وإذا رحمت فأنت أم ٌأو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ ومثل قول الشاعر الذي جادت قريحته بهذا البيت الفذ في علم الهمة والعزيمة: إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ونكّب عن ذكر العواقب جانبا أو قول طرفة بن العبد: إذا القوم قالوا من فتى خِلْتُ أنني عُنيت فلم أكسل ولم أتبلَّدِ والجميل في ذلك أنها لا تقدم موعظة جافة، ولكنها تحرك العواطف الإنسانية الحية في وجدان السامع. ففي التربية يقول قائلهم: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا ندمت على التفريط في زمن البذر وقال البوصيري في قصيدة نهج البردة: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ أو قول القائل: فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلّتِ رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها فكانت قذى عينيه حتى تجلّتِ وعكس ذلك قول الشاعر: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولُ وقد جمعت في السنوات الماضية مئات الأبيات الجاهرة على رأي الأستاذ الكرمي. ومن السهل الممتنع قول الشاعر الكويتي خالد الفرج: من بُلَّتْ لحية جارٍ له فلْيسكب الماءَ على لحيتهْ وصورة درامية أخيرة شطح فيها الخيال حين قال الشاعر: رأيت الناس خُدّاعا إلى جانب خُدّاعِ يعيثون مع الذئب ويبكون مع الراعي إن الشعر العربي عامر بآلاف المواقف بل بعشرات الألوف. ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.