في ظهيرة باردة جابت بنا حافلة مكتظة بالشعراء والفنانين والغاوين شوارع جدة لتتكشف مواجعها وفواجعها بعد أن بعثر المطر أوراقها ومزق التجاوز المالي والإداري أحشاءها. كانت دعوة كريمة، وهي لفتة إنسانية بالدرجة الأولى، ففكرة الزيارة من قبل وجوه مألوفة وأخرى معروفة لهذه المناطق المنكوبة هي فكرة نبيلة وجميلة. ولكن فيما يبدو أن التخطيط المسبق قد غاب عن منظمي هذه الجولة، على الرغم من حرص الصديق (سعود الخلف) مراسل العربية المتألق والمتأنق، والإعلامي (مساعد الخميس) على أن تحقق هذه الزيارة الأهداف المأمولة. بدأت الجولة من حي الجامعة ولاحظنا أن الخراب ما زال يضرب أطنابه في كل مكان رغم مرور أسبوعين على هذه الكارثة المفجعة، وشاهدنا ما حل بمباني الجامعة الخارجية، إذ اتضح أن الإهمال والقصور لم يكتفيا بالطرق والجسور والأرصفة بل وصلا إلى المنشآت الحكومية. وقد أشار الزميل هاشم الجحدلي إلى هذه المسألة عندما طالب في إحدى مقالاته بأن يشمل التحقيق أيضا المسؤولين عن إنشاء وترسية وتنفيذ مشاريع المرافق الحكومية التي لم تصمد أمام كمية الأمطار العادية التي هطلت على هذه المدينة. بعدها توجهت بوصلة الحافلة الحائرة إلى جنوبجدة (كيلو4، كيلو8، .....) وتغلغلت في أزقة تملأها الحشرات ويختلط فيها الوحل بأقدام الناس. كنا نتمنى أن تبدأ الزيارة للحي الأكثر تضررا والمأهول بالمواطنين المنكوبين وهو حي قويزة، ولكن أدركنا المغرب ونحن في أقصى الجنوب! أثناء تجوالنا سيرا على الأقدام بمعية نجوم رياضية وفنية شهيرة، تحولت المواساة إلى مهرجان لالتقاط الصور التذكارية مع هذه الشخصيات المعروفة.. أحد المواطنين يصرخ بوجع مستطير: (عزف حزايني على هذي المناظر يابو سارة).. وكان يقصد الفنان القدير عبادي الجوهر! الجولة رغم قصرها وضياع بوصلتها إلا أنها كانت ممتعة حد الألم ومؤلمة حد المتعة.. طغى بعدها الإنساني على تفاصيلها ولمسنا عن قرب تفاني بنات وأبناء جدة في مجال التطوع وحبهم للعمل الخيري. وفيما هم منشغلون ومشغولون بتقديم العون والمساعدة وتوصيل المؤن لمستحقيها متجاوزين كل العقد الاجتماعية التي ترسبت في الذهنية المتحجرة، لا يزال البعض يرى أن اختلاطهم مفسدة أخلاقية تفوق التجاوز الإداري والمالي والإنساني الذي تئن تحت وطأته هذه المدينة الحالمة.. رفقا بعقولنا ومشاعرنا.. ويكفي!