صحيح أن بيوتهم بسيطة وحياتهم بعيدة عن التعقيدات ونقلات الأجهزة الذكية ومستجدات الحياة الصاخبة ومستلزماتها الضرورية وغير الضرورية، لكن هذه البيوت عامرة بالفرح والراحة النفسية المتناهية كما يقولون ويشعرون، كل من يرى البيوت الشعبية هذه يظن أو يتوهم أن في عمقها دموعا إلا أن الحقيقة غير ذلك، فالنظرة القاصرة إلى القشور لا تنطلق إلى العمق.. ولعل زيارة واحدة إلى إحدى الحارات في منطقة البلد وتحديدا البيوت المطلة على شارع الستين تكشف بجلاء أن الحياة أجمل مما يتصور، علاقات اجتماعية متماسكة وقناعة بالقسمة والنصيب. منفصلة.. لكن في نسيج ها هو عبدالله صعيدي أحد أقدم سكان الحي يقول: «إنه منذ طفولته يعيش هنا في حياة متميزة يعززها تقارب الناس والجيران، إذ تتشكل صور بخلاف ما يحدث في الأحياء الراقية البعيدة، الناس هنا كما يقول يشعرون براحة نفسية تعم كل أرجاء بيوتهم مع الألفة والمحبة التي تحف أهله وساكنيه، لافتا إلى أن الناظر إلى البيوت من خارجها لا يرى عمق داخلها وفي الواقع تخالف ما ينظر إليه الناس من بعيد هنا الترابط الكبير الذي يحيط علاقة الجيران، فيعيشون وكأنهم عائلة واحدة وجسد واحد، يحزنون لحزن بعضهم ويفرحون ويساندون بعضهم في وقت الحاجة ويهبون للنجدة والغوث كلما دعا الداعي». وطبقا لصعيدي فإن هذه البيوت منفصلة عن بعضها في الواقع لكنها مرتبطة بنسيج قوي، الأهالي هنا يتسامرون سويا ويأكلون في مائدة واحدة وما فاض يوزع على الجيران، يتبادلون الأطباق وهذا الميراث الجميل انتقل من الآباء إلى الأحفاد. جمال المظهر والمخبر أحمد حسن أحد السكان القدامى يلتقط طرف الحديث ويزيد «الجميع هنا يعيشون في اطمئنان، ما تراه هنا ليس مباني مشيدة بالأسمنت بل بالتودد والحب، يعملون مثل سائر الناس ويعودون إلى بيوتهم وتجمعهم ساعات العصر في الدكة يتبادلون الأحاديث ويمارسون هواياتهم وألعابهم الشعبية، ويتناقشون في همومهم وقضاياهم والبسمة ترتسم على محيا الجميع وتعكس واقعهم الجميل الذي يعيشونه في بيوتهم وهذه نعمة من الله، فليست الحياة مظاهر ولا مجرد زخارف أو بيوت مشيدة. ويضيف حسن قائلا: الجميع هنا على قلب رجل واحد، تجمعنا مناسباتنا ونتعايش مع هموم بعضنا، نهب لنجدة جيراننا وقت الحاجة ونلبي طلباتهم وقت الشدائد، وعندما يخرج صاحب البيت من منزله فإنه يستأمن على أهله بوجود جيرانه، وفي المناسبات لا تجد أحدا يتخلف عن الحضور أو يغيب عن التواجد، نعيش الآن كما كنا من قبل فهذه عاداتنا التي تربينا عليها وسنظل كذلك. لهذا يعود الراحلون إن الحياة البسيطة التي ترتسم على ملامح هذه البيوت من الخارج لا تعكس واقعها الداخلي، فالداخل يختلف عما تشير إليه ملامح الخارج. حيث يقول أحمد صعيدي: في أغلب أوقات اليوم تجدنا مجتمعين في الدكة، وفي المناسبات نقيم الألعاب الشعبية مثل المزمار وتجتمع الحارة كلها، حتى أن بعض الجيران من الإخوة المقيمين العرب وغيرهم يجتمعون معنا، ويقولون إن ذلك يذكرهم بالحياة في بلادهم خصوصا في مناسبات الزواج أو قدوم مولود جديد أو غيره، وبعضهم يساهمون في التجهيز لهذه المناسبات بحكم الجيرة، ورغم أن بعض البيوت سكنها العزاب من الجنسيات المختلفة لكن العادات لم تتغير، وظللنا كما تربينا فيها، حتى السكان ممن تيسرت أحوالهم وانتقلوا إلى مناطق شمال جدة يعودون إلينا في بعض الليالي ليقضوا معنا الأوقات ويقولون: إن اللذة التي كنا نجدها إبان إقامتنا في هذه المنطقة مفقودة هناك في أحيائنا الجديدة (ذات يوم احترق بيتي وأنا غائب، لكن الشباب هرعوا إلى منزلي وأدى كل واحد فيهم واجبه وكأنني موجود).