«رضا الناس غاية لا تدرك».. هكذا تقول الحكمة القديمة، ولو أسقطنا هذه المقولة على ردود الأفعال تجاه بعض قرارات ومبادرات وزارة العمل الخاصة بتوطين الوظائف، لانطبقت المقولة على بعض تلك البرامج بامتياز. ولعل أحدث مثال على ذلك هو كثرة التصريحات المحذرة والمتخوفة من القرار الأخير القاضي برفع تكلفة العمالة الوافدة والتي عبر عنها العديد من قيادات القطاع الخاص وأصحاب المؤسسات الصغيرة ومسؤولي الجمعيات المهنية عبر مختلف وسائل الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية. وليس الهدف من هذا التحليل هو تناول إيجابيات أو سلبيات القرار الأخير والتي باتت معروفة الآن، بل محاولة سبر أغوار أساس المشكلة باعتباره السبيل الأفضل في تقديري لإيجاد حلول مستدامة لنقص الوظائف من شأنها تحقيق مصلحة أبنائنا الباحثين عن فرص العمل، وأصحاب الأعمال، واقتصادنا الوطني، واستقرارنا المجتمعي بشكل أشمل. ندرة الكوادر وحتى يتم الوصول إلى صيغ مرضيه لكل الأطراف، لابد من الإقرار أولا بأن «جود كوادرنا البشرية من موجود مخرجات نظامنا التعليمي» وأن المشكلة لا تكمن في رفض تجارنا وصناعيينا توفير الوظائف للمواطنين، بل في ندرة الكوادر البشرية الوطنية المؤهلة مهنيا وفنيا لشغل الوظائف المتاحة في مختلف قطاعات الاقتصاد، وإلا فإن هناك مئات الآلاف من الوظائف ذات الطابع الفني والمهني لدى القطاع الخاص بانتظار أبنائنا المؤهلين. كما يتعين علينا أيضا الاعتراف بأن منظومتي التخطيط و التعليم اللتين أخرجتا « بعبع» البطالة من جحره بعدم مواكبتهما للمتغيرات التي شهدتها بلادنا في العقود الثلاثة الماضية، لابد وأن يتوليا إعادته إلى مكانه وإلا فإن وزارة العمل سوف تتكفل بدفع الفاتورة الباهظة باستمرار أو تظل حائرة على الدوام بين مطالب العاطلين وتأهب التجار وترقب المستهلكين. وبطبيعة الحال فإن إعادة «البعبع» تتطلب تخطيطا رشيدا وبعيد المدى لنوعية الاحتياجات الوطنية من الأيدي العاملة، وتطويرا جذريا على سياسات ومناهج التعليم تتكفل بتخريج الكفاءات المطلوبة. التدريب والتوظيف وثمة مثال آخر واضح على عدم تقبل بعض سياسات وزارة العمل وهو عدم رضا حوالى 600 ألف مواطن ومواطنة من مستفيدي برنامج «حافز» ممن أكملوا عاما في البرنامج، عن توقف مبلغ الإعانة عنهم رغم عدم حصولهم على التدريب الملائم أو فرص عمل تغنيهم مرتباتها عن مبلغ مكافأة حافز. فالبرنامج الذي كان مقدرا له المساهمة في حل إشكالية توظيف السعوديين تجاوبا مع مطالب اجتماعية ظل صداها يتردد في وسائل الإعلام والمجالس طوال سنوات، أصبح ينظر له الآن باعتباره جهدا غير مكتمل ولم يحقق أهدافة الرئيسية المتمثلة في قيام الدولة ممثلة بوزارة العمل، بدعم شباب الوطن العاطلين، وتهيئة بيئة العمل الجاذبة لهم، وزيادة تنافسيتهم عبر التأهيل المناسب ليصبحوا جاهزين لشغل الوظائف الملائمة لطبيعة تأهيلهم؛ وذلك خلافا للانطباع الخاطئ بأن الوزارة هي المسؤول المباشر عن توظيفهم. برامج متسرعة ويبدو أن إلحاح مطالب المجتمع، وتوجيهات الحكومة بوضع حلول ناجعة لمشكلة متفاقمة، إضافة لرغبة «الوزارة» في سرعة اتخاذ إجراءات فاعلة لإعادة هيكلة سوق العمل في المملكة، ألقت بظلالها على جاهزية بعض برامج الوزارة التي جاءت متسرعة، لاسيما أن تلك البرامج تستهدف التعامل مع اختلالات عميقة وموروثة لم تصنعها وزارة العمل، بل هي نتاج تقصير تراكم خلال عقود ونجم عن عدم قيام عدد من الأجهزة الحكومية، بما كان ينبغي عليها القيام به سواء في التعليم أو التخطيط أو في قيم وثقافة وأخلاقيات العمل. حلول واقعية ورغم إقدام الوزارة على إطلاق برنامج حافز، مدعومة بإرادة سياسية تستشعر هموم ومطالب المواطنين، مع وفرة استثنائية تتمثل في متانة الوضع المالي للحكومة الذي أتاح لها صرف أكثر من 22 مليار ريال للمستفيدين من حافز خلال عام، إلا أن البرنامج في، رأي البعض، لم يلب طموحات الكثير من المستفيدين أو تطلعات مؤسسات وأصحاب الأعمال في استقطاب كوادر بشرية وطنية مؤهلة تتناسب مع الاحتياجات، في حين أن استثمار مبلغ بهذه الضخامة في تنظيم آلاف دورات التدريب الفنية والمهنية والمتخصصة في مختلف المهن والحرف المطلوبة، في كافة مناطق المملكة كان سيمثل باكورة حل عملي وواقعي ومستمر لمشكلة نقص تأهيل الخريجين . المطلوب فنيون وعلى ضوء عدد وطبيعة الوظائف التي نجح «حافز» في شغلها بالمواطنين حتى الآن والتي يغلب عليها التخصصات الإدارية، يمكن القول إن البرنامج لم يقم خلال فترة تطبيقة بالتأهيل المهني أو الفني لعدد معتبر من طالبي العمل لشغل مئات الآلاف من الوظائف المهنية المطلوبة بشدة في مصانعنا وبيوتنا وشركاتنا ومستشفياتنا، بل إن غالبية الوظائف التي تم توفيرها حتى الآن هي وظائف إدارية، وعاجلا أو آجلا سوف تتشبع قطاعات الأعمال بهذا النوع من الوظائف مع بقاء الحاجة للتخصصات الحرفية المطلوبة كالنجارين والبناءين والكهربائيين والسباكين والدهانين والحدادين والميكانيكيين والحلاقين وفنيي اللحام والتبريد وأخصائيي التخصصات الطبية في أقسام الأشعة والتحاليل المخبرية وعمال قطاع الصناعات التحويلية والمهندسين بمختلف تخصصاتهم والأطباء والصيادله وغيرهم الكثير. صلاحيات مختلفة ولعله من عدم الإنصاف تحميل وزارة العمل بمفردها مسؤولية إيجاد حلول لتحديات بهذا الحجم مع افتقارها لبعض أبرز الأدوات اللازمة للحل والتي يتمثل بعضها في إعطائها صلاحيات من نوع مختلف مثل إشرافها الفوري على التعليم المهني والفني، وإعادة هيكلة مخرجاته نوعيا وكميا بدءا من التعليم الثانوي، وإشراكها أو على الأقل استشراف رأيها في مناهج التعليم العام ، والأخذ بتوصياتها حول التخصصات الجامعية التي ينبغي إيقافها أو تقليصها لانعدام الحاجة لخريجيها مع التوسع في فتح التخصصات المطلوبة في سوق العمل. وفي الختام فإنني أثق ومعي الكثيرون بأن دور وزارة العمل ينبغي أن يتركز في تهيئة مناخ العمل المناسب، وتجهيز طلاب العمل بالتخصصات المطلوبة بالتعاون مع الأجهزة الحكومية المعنية، وعندها فقط سوف يتسابق رجال الأعمال والصناعيون وأصحاب مؤسسات الأعمال الصغيرة الطامحون للحصول على المزيد من مزايا برنامج «نطاقات» في استقطابهم وتوظيفهم بدون جهد يذكر من الوزارة .