معرض الكيف بجازان يسدل الستار على فعالياته بعد حضور فاق التوقعات واهتمام محلي ودولي    تغطية اكتتاب أرامكو للمؤسسات ب +45 مليار ريال    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    المنتخب الوطني يواصل تحضيراته لمواجهة باكستان    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    الصدارة والتميز    أجمل من عطر منشم..!    39.7 مليون برميل مستويات الإنتاج.. ( أوبك+) تمدد تخفيضات الإنتاج لنهاية 2025    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    أوبك+ تقرر تمديد تخفيضات الإنتاج الحالية حتى نهاية 2025    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    وصول الطائرة السعودية ال 51 لإغاثة الفلسطينيين    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    ملاجئ «الأونروا» فارغة    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    حجاج الأردن وفلسطين : سعدنا بالخدمات المميزة    الأولمبي السعودي يستهل مشواره بمواجهة كوريا الجنوبية    الأزرق يليق بك يا بونو    الاتحاد بطل.. أخذوه وبعثروه    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    وزير العدل: دعم ولي العهد اللامحدود يضع على أفراد العدالة مسؤولية كبيرة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج دون تصريح    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    جامعة نورة تنظم 20 حفل تخريج لطالبات كلياتها ومعاهدها    توبة حَجاج العجمي !    "طريق مكة".. تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    "الأمر بالمعروف" تدشن المركز الميداني التوعوي بمكتبة مكة    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    رائحة تقضي على النمل الأبيض    أمير منطقة تبوك يعتمد الفائزين بجائزة سموه للمزرعة النموذجية    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الشورى: مراجعة شروط الضمان الاجتماعي المطور لصالح الأيتام وبعض الأسر    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    إدانة مزور شيكات ب34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    مسبار صيني يهبط على القمر    وصول الطائرة ال51 لإغاثة غزة    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    المملكة تحقق أول ميدالية فضية ب"2024 APIO"    «أطلق حواسك».. في رحلة مع اللوحة    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرة مبنى في نيويورك «3»
نشر في عكاظ يوم 02 - 12 - 2017

لم أتساءل في بداية المقالين السابقين: من يكتب سيرة المبنى وتاريخ حكايته التي تنقسم بين عدة رواة في عمره المديد؟
هل قصة عاشقين عاشا فيه ترصد شيئاً من ملامحه التي تتغير في عيونهما وهما يدلفان بعد مسرة؟ أم تخبئ أخبار ساكنيه وما مر به من أحداث تلك التجاعيد اللينة على وجه أم مسنة وهي تلتفت لابنتها التي تدفع بها في مقعدها المتحرك لدخول المصعد؟ لكن يا ترى هل ستسعفها الذاكرة لتسرد التفاصيل التي شتتها النسيان؟ ماذا عن المهندس المعماري الذي رسم المخطط الأول، وكل من أتى بعده لترميم المبنى الذي كلما أمسك بركن حكاية هددها السقوط ليجيء آخر ويُشَيّد سردها من خلال الحفاظ على سمات المبنى المعمارية؟ عرفت فيما بعد أن المطورين المعماريين كانوا من الجالية الإيطالية أو اليهودية وقد ساهموا في ترميم مباني هذه الهضبة التي شُيّدت منذ أواخر القرن التاسع عشر وما قبل الحرب العالمية الأولى كما أشرتُ سابقاً. سيرة المبنى تتسع لتشمل من عاش فيه وفي المنازل السكنية المجاورة بين شارعي أمستردام وبرودواي في ذاك الزمن، وهم من الطبقة الوسطى من المحامين والأطباء والصحافيين والأساتذة وتجاربهم تُعَمرُ بعداً قصيّاً لهذه السيرة المشاعة والتي بالتأكيد تشبه سيرة الأنا التي تلامس تجارب آخرين قد يذكرها السارد، أو يُغفِلُ حقاً لمن غربل جزءاً من فصول حياته، ولكن هذه إشكالية أخرى.
هذا المبنى القابع في مرتفعات مورنينج سايد في جزيرة مانهاتن يحكي عدة سِير وجدتُ بعضاً منها حين بحثتُ في طيات تاريخه المبكر وقبل أن تصبح مقاطعة نيويورك مستعمرة ملكية بريطانية (1664م-1776م): كانت هذه المساحة الجغرافية منطقة برية يمارس فيها الأمريكيون الأصليون الصيد، وكانوا يسكنون في أطراف الولاية قبل قدوم الأوروبيين، وقد تمت إبادتهم بسبب الأمراض الوبائية المتعددة التي حملها المستعمر الجديد ولم يحتملها جسد الهندي الذي يجهل مقاومتها، بالإضافة إلى حروب الإبادة والعبودية والشتات؛ لكن لا أدري إن بقي شيء من أثرهم المجيد، أم قضى نحبه ولم يبق إلا الأطياف في ذاكرة من يهمه الأمر ليجمعها في متحف أو قصيدة. هنا في مشهد الإقصاء ومحاولة محو الأثر تتجلى ذاكرة المبنى نفسه لأنها حارسة يقظة على تحولات الزمان وهي كفيلة أن تفتح أرشيفاً من القصص لنتأمل التاريخ الذي يشظيه ويُعيدُ تشكيله عنف استعماري وثقافة عليا تنعطف مع ما يقابلها من نهج وانشغال بثقافة الاستهلاك اليومي. هنا تماماً في هذه التقاطعات، أخذني تَتبعُ سيرة المبنى لنصوص أدبية وأخرى لم أتوقع أنني سأشير إليها مثل، «دليل السجل العقاري والبنائين» الصادر في 11 أغسطس 1906م، و«مرتفعات مورنينج سايد منطقة تاريخية، تقرير- 21 فبراير 2017م» والذي نادت فيه اللجنة بتخصيص هذه المنطقة من جزيرة مانهاتن منطقة تاريخية لتميزها؛ بل اطلعتُ على كتب سيرة كتبها آخرون لمن اشتهر في تطوير المدينة وأخفق في تحقيق ما يحتاج إليه قاطنيها.
لا أحد سيجد سيرة تشفي فضوله لأن نصيبها هو التشظي، إما بسبب عنف تاريخي أو نسيان وكل محاولة هي تنسيق الشذرات وحسب كما في الرواية الأمريكية التي جعلت من نيويورك في تلك الفترة مشهداً لأحداثها، وخاصة رواية (جاز) لتوني موريسون. اللافت أن هذه الرواية لا تصف مدينة نيويورك وإنما تدونها من خلال معاناة الشخصيات الأربع القادمة من الجنوب الأمريكي استجابة للوعد الذي جَذبَ المهاجرين والقادمين من الريف الجنوبي. تكتب موريسون نيويورك العشرينات من خلال تصوير مشاعر الشخصيات، اضطراباتها النفسية، الحِرف الصغيرة التي يقومون بها: جو بائع متجول لأدوات التجميل البسيطة، وزوجته فايلت مصففة شعر، وأليس تحيك الملابس وترتِقها؛ والثلاثة اشتبكتْ مصائرهم بسبب «حب شبحي» كما وصفته فايلت في بداية الرواية، بين جو وفتاة الثامنة عشرة، دوركاس ابنة أخت أليس والتي ماتت مقتولة برصاصة أطلقها جو، ثم جاءت زوجته بسكينها لتجرح وجهها وهي في كفن الجنازة. لا قانون حاضر في النص يتدخل في هذه الفوضى النفسية مما اضطر أليس وفايلت أن تقترفا الحكي محاولة لفهم ما حدث، أو ربما كتصوير لتجربة الأقليات التي لا بد أن تتعايش مع ويلاتها.
قبل قراءة النص، يشدنا عنوان الرواية، والمدهش هو اختيار موريسون لعنوان تحوله مشهداً لقراءة نصها تتشابك فيه عدة قضايا مما يقترح بعداً آخر للتقارب بين الأدب، الموسيقى، والفضاء غير المسمى بين الاثنين والذي يلوح إلى التاريخ السيري للذاكرة الأفريقية الأمريكية. لم يذكر النص عنوانه وإنما نقترب من وصفه في تعليقات مختلفة للشخصيات الرئيسية، ومن خلال آراء أليس مانفريد المفرطة، على سبيل المثال، نرى تجسيداً ملحوظاً لمقاومة الجاز كتمثيل لوجهة النظر التقليدية عنه وما طُرح في النقاشات التي أظهرت مقاومة له في الخطاب الغربي، كما اقترحتُ من قبل.
وهكذا، يصبح نص توني موريسون دراسة نظرية تستعرض فيها الموسيقى بطرق لا تفصح عن بنية مقاومة، حيث إن الآراء المتطرفة يتم نقاشها في السرد الذي يميل لملاحقة هذا الأثر نصياً. ولعل الأهم من ذلك، أن الكاتبة تكشف أهمية هذا اللقاء بين هذا النوع الموسيقي والكتابة تاريخياً، فشخصياتها ليست فقط مطاردة بأطياف العبودية - كما غالباً توظف هذه الثيمة في نصوصها - ولكن أيضا تشير إلى مواجهة لا مفر منها مع الموسيقى التي تحرض التذكر ليأتي متدفقاً من خلال تجارب الرق كاستدعاء/‏إعادة كتابة روايات الرقيق التي دوّنها من تَحَررَ من العبودية؛ وهذه النصوص الموسومة بالنقصان تُشكل الأصل الأول لتجربة السرد الأدبي الأفريقي الأمريكي.
وللجاز في نهضة هارلم بقية.
* أكاديمية سعودية درّست في جامعتي كولومبيا وهارفارد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.