في أي مجتمع، تتصدى النخبة دائماً لمهمة الحوار الدائم والمفتوح مع مختلف أطيافه وشرائحه. إذ تخول لنفسها حق إرسال الرسائل التي تشخّص سبب معاناته وتقترح حلول خلاصه من تلك المعاناة. بمعنى أنها ترسم شكل الحياة المقترحة وفق مرئياتها ومن منطلق مسؤوليتها. وهذا الحوار يستلزم وجود فضاء مفتوح يكون بمثابة ساحة اللقاء الإجتماعي، أي المحل الذي يشترك الجميع في تشييده مادياً ومعنوياً لتداول الشأن العام.وقد كان ذلك الفضاء سابقاً يتخذ طابعاً مكانياً، يتمثل في السوق أو الجامع أو الميدان العام للبلدة. أما اليوم فقد صارت وسائل الميديا هي المحل الإجتماعي. حيث يمكن توجيه الرسائل والخطابات من خلال الصحافة والتلفزيون والسينما والإنترنت. وهو الأمر الذي يفسر وجود النُخب بكثافة في هذه الفضاءات، خصوصاً مواقع التواصل الإجتماعي، التي تتميز بسهولة الإستخدام، وتحقق التفاعل وإيصال الرسائل بأسرع وأسهل طريقة وكلفة. حيث باتت المواقع الإلكترونية تنافس المسجد من ناحية التأثير الجماهيري.ومن ذات المنطلق يمكن فهم حضور الدعاة في موقع تويتر بتلك الصورة الفائضة. وهو حضور مستوجب، وضروري، ولا اعتراض عليه، لأن تويتر بمثابة الفضاء المفتوح للجميع، والداعية، يمثل صورة من صور النخبة، أو هكذا يقدم نفسه. وهو بحاجة إلى مثل هذه الفضاءات المفتوحة لاقتحام بنية المجتمع، وإطلاع الناس على ما في ذهنه من تصورات إزاء الوجود، وجريات الشأن اليومي العام، لكي لا تبقى مختزناته الثقافية داخل عقله، ولكي لا يعيش هو في عزلة إجتماعية. ولكن الملاحظ أن الداعية الذي يُفترض أنه يمارس التأمل، ويفكر بعمق وروّية قبل أن يواجه المجتمع برؤيته، يسمي دخولاته المستعجلة، وأفكاره النيئة بالخطابات المفتوحة. وهو مؤشر بات على درجة من الوضوح في الفترة الأخيرة. إذ صرنا على موعد بين آونة وأخرى مع ما يُسمى بخطاب مفتوح. وهو في حقيقة الأمر، ومن واقع تفاصيله ومنطلقاته مجرد تصورات أولية على درجة من البساطة والأفقية والإنغلاق. إذ لا يحتوي ذلك المسمى -تجاوزاً- بالخطاب إلا على مجموعة من العناوين البراقة، التي يُراد لها أن تصبح حيّة بمجرد استدخالها في المحل الإجتماعي.إن الخطابات المفتوحة لا تنتجها إلا ذوات منفتحة، حوارية بطبعها، وعلى درجة من المرونة في تقبل الرأي الآخر. أما ما نطالعه في تويتر فليس أكثر من إملاءات تتلبس لبوس الخطابات. وهي ناتجة عن ذهنيات تربك المعنى الحياتي من خلال إغفال العامل المدني في طروحاتها، وتغليب الأبعاد الدينية لإكتساب أكبر قدر من الجماهيرية. وتلك الذوات إنما تستفيد من المواقع الإجتماعية لإضفاء السمة العصرية على رسالتها الموجهة للمجتمع. من يطرح خطاباً مفتوحاً في تويتر يُفترض به أن يقدمه كمقترح قابل للنقاش والمراجعة، وليس كمشروع نهائي لا يقبل إلا التسليم بما فيه، والإنقياد الأعمى لصاحبه. ومن يطرح خطاباً على تلك الدرجة من الأهمية ينبغي عليه أن يستمع للآراء المضادة ويحاورها بوعي واحترام، لا أن ينصرف عنها إلى خطاب جديد آخر وهكذا. لأن عدم التفاعل مع الناس سواء في تويتر أو خارجه، يعني إغلاق المحل الإجتماعي، وبالتالي قتل الحوار. بل إن عدم المبالاة بوجة نظر الآخرين يؤدي إلى الإجهاز على النموذج الثقافي الذي يُحتكم إليه، وتعكير قنوات التواصل عوضاً عن تحريرها من التكلّس والإنغلاق. لا يمكن لخطاب أن يكون مفتوحاً إلا عندما يضع واقع المرأة وحقوق الأقليات على قائمة أولوياته. ولا يمكن لذلك الكلام الإنشائي أن يرقى إلى مستوى الخطاب إلا عندما يعترف منتجه بحق الآخرين في الوجود والمشاركة في صنع شكل أكثر تقدماً لمعنى المواطنة. فهذا هو ما يُكسبه شرعيته. أما الرقص على جراح المقهورين واللعب بعواطفهم، فليس أكثر من لافتة لا تمتلك على مستوى المضامين أي رصيد. فالمحل الإجتماعي تفتحه الثقافة الحوارية وليس الإملاءات الفوقية. والخطاب المفتوح بمعناه الفلسفي والإجتماعي لا ينفتح على جهة وينغلق على أخرى. [email protected]