إِذَا لَمْ يَكُنْ صَدْرُ المجَالِسِ سَيِّدَا فَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ صَدرَتْهُ المجَالِسُ وَكَمْ قَائِلٍ مَاليِ رَأَيتُكَ رَاجِلاً فَقُلْتُ لَهُ مِنْ أَجْلِ أَنّكَ فَارِسُ (ابن خالويه) هناك فرق كبير في المعنى بين الفعلين «قادَ» و «ساقَ». فالأول يعني أن تكون في المقدمة والنَّاس تتبعك طوعا. والثاني يعني أن تكون في المؤخرة وتسوق الناس سوقا إلى مبتغاك. «فالقائد» هو من تتقدم خطاه على من حوله في الفعل المؤثر، وهو الذي يتحمل مخاطر أعلى من غيره من أجل المجموعة. وهو يعرف كيف يصل إلى قلوب الناس بصدق. فالقائد الحقيقي هو الشخص الذي يقود الناس إلى هدفهم أو إلى الهدف المشترك، ويمهد الطريق أمامهم لكي يصلوا إلى مبتغاهم، ويبني الجسور أمامهم لكي يعبروا إلى حيث ينبغي أن يكونوا. أما «السائق» فهو متسلق يضحي بالآخرين ويستبقي نفسه، ولا يكون مثالا للناس ليقتدوا به. ولكنه يدفعهم من الخلف بقوة السلْطة لتحقيق أهدافه، لا أهدافهم. وليس المقصود بالمقدمة والمؤخرة هنا، الموقع المكاني للقائد، ولكن المقصود هو التقدم بالفعل لا بالمكان، بالضرورة. وفي هذا نتذكر تشرشيل عندما قيل له اجلس على الكرسي المخصص للرئيس في رأس الطاولة، فقال: «أينما أجلس يكون رأس الطاولة». لم يكن حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حين بدأ منظرو علم الإدارة في أخذ منحى نظري جَديد ومختلف تماما في مفهوم القيادة. وبدأ مع ذلك دراسة العلاقة بين القيادة «الأصيلة» والأداء التنظيمي. وقبل ذلك، فقد كان التركيز أكثر على تصرفات القادة كوسيلة لتحفيز الأتباع للانصياع. وقد بدأت البحوث الحديثة بدراسة ما يسمى بالقيادة الأصيلة أو الحقيقية. وهو نوع القيادة الذي يغير نمط تفكير العاملين حيال الأشياء التي يعملونها، بدلا من فعل الأشياء فقط لأنهم مأمورون بها. وتتلخص القيادة الحقيقية في نوعية العلاقات بين الرئيس ومرؤوسيه. فقد أظهرت الأبحاث وجود ارتباط قَوِي بين علاقة الرئيس بالمرؤوس من جانب وإنتاجية المنظمة من جانب آخر. فالعلاقات الجيدة تنتج عنها حرية نفسية، وزيادة في الميل للتفكير في العمل، وانضباط أخلاقي أكثر. في الواقع، فإن القيادة الحقيقية تغيّر الطريقة التي ينظر بها العاملون إلى المنظمة. إن تغيير وجهات النظر هو أساس التطوير الوظيفي للآخرين. فالتنمية لا تعني بالضرورة تعلم مهارات جديدة، لأن الموظفين والمسؤولين السيئين يعرفون كيفية القيام بالعمل، ويحفظون الإجراءات عن ظهر قلب. ولكن أداء العمل ما هو إلا نصف الإنجاز. فالهدف الأكبر هو أن نقوم بالعمل بعقلية مناسبة. كمّا يمكن فهم القيادة الحقيقية من خلال النظر في مدى أصالة التصرف. فالقادة الأصلاء لا يتظاهرون بالظهور خلاف شخوصهم الحقيقية. وهم لا يتصرفون بشكل مختلف أمام الجمهور عنه في جلساتهم المغلقة. وما يقولونه هو ما يعْنونه تماماً. وهم لا يخفون أخطاءهم أو ضعفهم خوفا من أن يوصموا بالضعف. إنهم يديرون منظماتهم بقلوبهم وليس بعقولهم فقط. ويتأكدون من أن الآخرين يشعرون بالأمان عندما يتحدثون إليهم. وهم بطبيعتهم متواضعون. ولا يسعون للحصول على الاهتمام. فهم على انسجام تام مع أنفسهم، ولديهم انتماء عميق لنظام قيمهم، وقادرون على نقل تلك القيم للآخرين. إن القائد الأصيل لديه التزام عالٍ بالمعايير الأخلاقية، ولديه الشجاعة للحفاظ على تلك المبادئ حتى في أصعب الظروف. أما «السائق» فهو يميل إلى تمزيق تماسك فريق العمل، ويدفع الموظفين للإحباط. وتكون تصرفاته غير حقيقية ولا أصيلة. ولا يمكن تغليفها بأي غطاء لتمويه حقيقتها. ولأن سلوكه غير صادق فهو يؤدي إلى تآكل الثقة والروح المعنوية للموظفين. وقد يكون تصرف المسؤول «السائق» فعالا على المدى القصير. ولكنه حتما غير فعال على المدى الطويل. إنه يستخدم أسلوب «العصا والجزرة»، الذي لا يصلح لقيادة الناس في مجال العمل. فالناس سوف تنسى الجزرة، ولا يبقى عالقا في أذهانهم سوى العصا. من الممكن أن يتحول «السائق» إلى «قائد». البراعة تكمن في الوعي الذاتي للطريقة التي ينظر بها الآخرون إلى تصرفاتنا. كل قرار، وكل حركة، وكل كلمة تصدر من الزعيم يتم تمحيصها من قبل المرؤوسين من أجل معرفة ثقافة المنظمة التي تشكلها تصرفاتهم. إن الموظفين ينظرون لبيئة العمل من خلال عدسة سلوك القائد. لذلك، فقد تبدو الأمور التافهة للموظفين قضايا مهمة، عندما يضخمها المسؤولون. وضمن التوجه الجديد لفهم العلاقات الإنسانية، فإنه لم يعد بالإمكان إلقاء اللوم على الموظفين كنتيجة لتدني الأداء. ولم يعد بإمكان المديرين اتهام الموظفين بالكسل أو اللامبالاة أو تدني الإنتاجية، بل على العكس من ذلك، فإن المصدر الأساس لكل السوء في مجال العمل، هو سلوك القائد. أكاديمي مهتم بقضايا الموارد البشرية