في أحد أيام الربيع الجميلة قبل أكثر من مائة وثلاثين عاماً، وتحديداً في العام 1884م توقف القطار في محطة قطار مدينة بوسطنالأمريكية لينزل منه زوجان تختلط في تعابيرهما مشاعر الحزن والأمل، وتوجها بعدها إلى جامعة هارفارد الشهيرة، ووصلا إلى مكتب رئيس الجامعة وطلبا من السكرتيرة مقابلة السيد الرئيس، وبنظرة سريعة من السكرتيرة للثوب القطني التي ترتديه السيدة، وإلى القميص المتواضع الذي يكسو جسد السيد قالت لهما: الرئيس مشغول الآن ولا يستطيع مقابلتكما، فردت عليها السيدة مباشرة: سننتظره حتى يفرغ، وبعد ذلك مرت ساعات طويلة وهما ينتظران، والسكرتيرة تنتظر لحظة الملل التي تجعلهما يغادران، إلا أنهما ظلا ينتظران، مما جعل السكرتيرة ترجو رئيسها أن يقابل الزوج الريفي بضع دقائق حتى يغادرا مكتبها، والرئيس كان يقول لها: لا وقت عندي لمقابلة الفلاحين، والسكرتيرة كانت تريد التخلص منهما بأسرع وقت، وعرفت أن المقابلة هي أسرع حل لرحيلهما، فوافق الرئيس تحت إلحاحها بمضض على اللقاء المختصر، وبعد أن أخذا مقعديهما من مكتب الرئيس انطلقت الزوجة بالحديث عن ابنها الذي كان يدرس في جامعة هارفارد لكنه فارق الحياة بعد حادث أليم، ولأنه كان في قمة السعادة في هارفارد فهما يرغبان في تخليد اسم ابنهما في الجامعة ومستعدان للتبرع بتكاليف التخليد، وحينها كان الرئيس في قمة البرود ولم يتفاعل مع القصة ولا الطلب، ورد عليهما بقوله: لا يمكننا يا سيدتي أن نخلد ذكرى كل من درس في هارفارد ثم توفي، وإلا تحولت الجامعة إلى غابة من النصب التذكارية، فقاطعته الأم قائلة: نحن نرغب في التبرع بمبنى يحمل اسمه، وبكل نظرة احتقار رد رئيس الجامعة عليها وهو يتأمل في الثوب القطني الذي ترتديه: وهل تعلمين كم تكلفة المبنى في هارفارد؟.. إنها تزيد على سبعة ملايين دولار ونصف!!، وحينها أدرك الرئيس أنه كسب الحوار وسيغادران الآن، إلا أنه تفاجأ بالسيدة وهي تستدير ناحية زوجها لتقول له: سيد ليندا.. ما دامت هذه هي التكلفة، فلماذا لا ننشئ جامعة جديدة تحمل اسم ابننا، فأجابها الزوج بعبارات وجهه المؤيدة دون أن يعلق على الحوار، وبعدها غادر الزوجان ليندا وجين وسط ذهول رئيس هارفارد وتوجها إلى كاليفورنيا ليؤسسا جامعة "ستانفورد" العريقة، لتنطلق الدراسة بها في مطلع العام الدراسي الأول من عام 1891 في ذكرى وفاة الابن، واستمرت الدراسة فيها مجانية حتى توفي المؤسس عام 1930، ولا يبدو حصول أكثر من أربعة وخمسين شخصاً من المنتمين للجامعة على جوائز نوبل بالأمر المدهش، نظراً للتفوق العظيم الذي تقدمه هذه الجامعة للعلم البشري خاصة في مجالات التكنولوجيا، ووادي السيليكون الشهير هو كيان خرج من رحم ستانفورد. ما يهمني هنا هو محاولة كسر القاعدة التي تقول: (الكتاب واضح من عنوانه)، فليس دائماً ما يكون العنوان يعبر عن المضمون، وقد يختبئ العنوان في الصفحة الأخيرة من الكتاب، والأغلفة الزائفة تخدعنا عندما تستسلم لها أحكامنا.