حين ترى النيل لا تحتاج إلى تذكر الأساطير التي اعشبت من حوله ولا يزيدك دهشة أن تقرأ مئات القصائد التي قيلت في وصفه، تحتاج فقط إلى أن تكون مخيلتك ذات أجنحة وأن تكون عيناك من الغرقى. ليس كل ما قيل في الأنهار نابعا من الدهشة، فقد يكون من مجرد التعجب الذي يعبر عنه شوقي: من أي عهد في القرى تتدفق وبأي كف في المدائن تغدق ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولا تترقرق؟ وقد يكون دليلا على جفاف العاطفة الذي يمثله ذلك الشاعر الأندلسي الذي لم ير في النهر إلا جريحا يشكو أوجاعه بخريره: ومطرد الاجزاء تثقل متنه صبا اظهرت للعين ما في ضميره جريح بأطراف الحصى كلما جرى عليها شكا اوجاحه بخريره وحين أبحث عن الدهشة في عيني الطفل الذي صار كبيرا وشاعرا لا أجدها إلا عند الشاعر محمود حسن اسماعيل.. وحين تساءلت عن السبب قيل لي: انه في طفولته غرق في النيل وانتشل من غرقه.. ويبدو أن الخوف الذي هو أحد معاني الدهشة قد انغرس فيه منذ الطفولة.. والخوف حين يتحول إلى دهشة يصبح نشوة «كنشوة الطفل اذا خاف من القمر». حين تسمع قصيدة محمود حسن اسماعيل بصوت الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب التي منها: «سمعت في شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل يسبح الطير أم يغني ويشرح الحب للجميل وأغصن تلك أم صبايا شربن من خمرة الاصيل..» حين تسمع هذا لا تسير الدهشة عن يمينك والنشوة عن شمالك بل تدخل في غيبوبة جمالية تود الا تخرج منها. في الأيام القاحلة الماضية حين كان «الريس» يفوز بنسبة 99 وتسعة من عشرة من أصوات الناخبين كتبت مقالا نشر هنا في هذه الجريدة لا اذكر عنوانه الآن ولكنه كان يدور حول السؤال: من هو هذا الذي خرج من القطيع ولم ينتخب الريس؟ وكان جوابي على السؤال انه النيل.. وها هو النيل يعود لينتخب ويرفض ويعلي ويخفض.. نعم لقد صار الشعب نيلا.