أن ترى نهرا يعني أنك صرت في نهب الدهشة، وهي تلك التي تجعل الطفل يرتعش حين يكتشف العالم من حوله، وتجعل الفيلسوف غارقا في تفسير الوجود والبحث عن معناه وجوهره أو تجعله منهكا في التفكير العبثي عن جواب للسؤال: لماذا «ما لجرح بميت إيلام؟» وهي فرحة العالم في مختبره حين يخرج عاريا وهو يصرخ «وجدتها»، وهي تلك التي تجعل المألوف المتكرر غريبا جديدا فهي تخرجه من رتابة التكرار وتلبسه معنى لم يكن فيه. إنها خلق المعنى الجديد إذن أو هي كما يقول القاموس: «تجاوز البديهي من الأفكار» غير أن القاموس الثرثار بطبيعته لا يقول هذا ويسكت بل يقول كذلك «الدهشة تزول مباشرة بمجرد معرفة ما أثارها.. أي بمجرد تحول المجهول الى معلوم». وإذا كنت ترى أنه صدق في قوله الأول، ألا ترى معي أنه كذب في الثاني بدون خجل؟ فالدهشة من النهر دهشة متكررة.. لأنها في كل مرة ينكشف لها سر من أسراره فترتعش دهشة ونشوة.. وهذا طبعا لا يحدث إلا لذي عينين طفلتين كما عليه الشعراء أو فلسفيتين كما عليه فلاسفة «التنوير». لقد رأيت أنهارا كثيرة نبتت حولها منذ فجر التاريخ أساطير وأناشيد وقصائد بفكهة بالدهشة.. وأهمها الفرات ودجلة والنيل الذي تقول الأساطير إنه من دموع الملائكة.. وقد عبر الجواهري تعبيرا رائعا عن نشوته بالفرات: بكر الخريف فراح يوعده أن سوف يزبده ويرعده وكأن من شبح الرمال على أمواجه طفلا يهدهده كما عبر الشيخ علي الشرقي عن نشوته بدجلة: تجاذبت دجلة من حضن الشجر رواضع تروق عينا وأثر طاح عمود النور فوق دجلة فصيرته بارتجاجها كسر وفوقه القصر المنيفي فوقه سوافر الغيد وفوقها القمر مناظر تدرج الحسن فيها ويصعد الحسن ويصعد النظر اما شوقي فقد هزته دجلة فقال: يا شراعا وراء دجلة يجري في دموعي تجنبتك العوادي سر على الماء كالمسيح رويدا واجر في اليم كالشعاع الهادي قف تمهل وخذ امانا لقلبي من عيون المها وراء السواد