أمير منطقة الرياض يستقبل أمين المنطقة    «الموارد»: 77% نسبة الصلح في الخلافات العمالية.. و4 محاور لمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    إطلاق خدمة رخص إقامة الأشياب غير الصالحة للشرب    محاور نوعية في برنامج تدريب المعلمين والمعلمات على منهجية STEAM بتعليم عسير    أمير جازان يرعى حفل افتتاح مهرجان المانجو والفواكه الاستوائية في صبيا غدًا    المرصد وحزب الله : إيران تقلص الوجود العسكري في سورية    «الصندوق العقاري»: لا نية لتغيير موعد الدعم السكني.. الإيداع في 24 من كل شهر ميلادي    ارتفاع الصادرات غير النفطية 4.4% في فبراير    خادم الحرمين الشريفين يجري فحوصات روتينية في «تخصصي جدة» لبضع ساعات    د. الخريّف يشارك في اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة    النائب العام يُقرّ إنشاء مركز برنامج حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    ترشيح "واحة الإعلام" للفوز بجائزة الأمم المتحدة لمشروعات منتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات "WSIS 2024"    166 مليار ريال حجم سوق الاتصالات والتقنية في السعودية لعام 2023    الأرصاد: الفرصة ما تزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    جامعة الفيصل تضخ 200 خريجاً وخريجة للقطاع الهندسي    توسعة وتطوير مطار الأحساء الدولي ومطار الرس    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    حارس العين: حاولت تهدئة اللعب بإضاعة الوقت    "سيبرانيو المستقبل".. تجربة الأمان والحماية الرقمية    «تأشير» ل «عكاظ»: 200 مركز لخدمات التأشيرات في 110 دول    محافظ الزلفي يطلق حملة الدين يسر    هبوط اضطراري لطائرة بوينج    فائدة جديدة لحقنة مونجارو    علامات ضعف الجهاز المناعي    الهلال يستضيف الفيصلي .. والابتسام يواجه الأهلي .. في ممتاز الطائرة    يوفنتوس يبلغ نهائي كأس إيطاليا بتجاوزه لاتسيو    مبادرة 30x30 تجسد ريادة المملكة العالمية في تحقيق التنمية المستدامة    معادلة سعودية    إنسانية دولة    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان التعاون والتطورات    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان هاتفيا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين    مجلس الوزراء: 200 ألف ريال لأهالي «طابة» المتضررة مزارعهم وبيوتهم التراثية    تفاهم لتعزيز التعاون العدلي بين السعودية وهونغ كونغ    المملكة تجدد مطالباتها بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيّين في غزة    أضغاث أحلام    الدرعية تكشف تفاصيل مشروع الزلال    تأثير الحياة على الثقافة والأدب    عدوان الاحتلال.. جرائم إبادة جماعية    أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    شاهد | أهداف مباراة أرسنال وتشيلسي (5-0)    إشادة عالمية بإدارة الحشود ( 1 2 )    دورة حياة جديدة    «خيسوس» يحدد عودة ميتروفيتش في «الدوري أو الكأس»    في انطلاق بطولة المربع الذهبي لكرة السلة.. الأهلي والاتحاد يواجهان النصر والهلال    طريقة عمل ديناميت شرمب    طريقة عمل مهلبية الكريمة بالمستكه وماء الورد    5 عوامل خطورة لمتلازمة القولون العصبي    مجلس الشيوخ الأمريكي يمرر حزمة مساعدات أوكرانيا    عبدالعزيز بن سعد يناقش مستقبل التنمية والتطوير بحائل    سعود بن نايف يشدد على تعريف الأجيال بالمقومات التراثية للمملكة    محافظ الأحساء يكرم الفائزين بجوائز "قبس"    أتعبني فراقك يا محمد !    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة 45 من طلبة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    الشرطة تقتل رجلاً مسلحاً في جامعة ألمانية    متى تصبح «شنغن» إلكترونية !    أخضر تحت 23 يستعد لأوزباكستان ويستبعد مران    مهمة صعبة لليفربول في (ديربي ميرسيسايد)    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقآء الأسبوعي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشرحة البلاغة
نشر في الوطن يوم 04 - 08 - 2011


طالما ردَّدْتُ في خاطري الشّاهد البلاغيّ:
لا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ
ضَحِكَ الْمَشِيْبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى
عرفتُ هذا الشّاهد في درس البلاغة في المرحلة الثّانويّة، ثمّ ألِفْتُ قراءته في كتب البيان العربيّ، ثمّ كان مِنْ جُمْلة الشّواهد التي ذاعتْ في كتب البلاغة في المدارس والمعاهد والجامعات. ولشواهد النّحْو والبلاغة سطوة على طلاب العربيّة، تسوقها كتب النّحْو والبلاغة والأدب تأكيدًا لقاعدة، وتبيانًا لمشكل أوْ غامض. وأذكر أنّنا كنّا نجد لذّة كبيرة ونحن نلتمس في كتب القوم شاهدًا، ومَنْ ساعده الحظّ فاستظهر قَدْرًا منها، فقدْ حاز عِلْمًا، وتميَّز عنْ أقرانه، وفي هذا الإحساس شيْء مِنَ الصّواب، ولكنّ ذلك شأن آخَر.
في تلك المدّة عرفْتُ أنّ هذا الشّاهد البلاغيّ للشّاعر دِعْبِل بن عليّ الخزاعيّ (148-246ه)، ولم يكنْ مِنَ المهمّ أنْ تَجاوزت معرفتي بالشّاعر ذلك القَدْر، فالدّرس بلاغة، ولم تكن البلاغة لتروم مِنْ طالبها أن يخلط بينها وبين تاريخ الأدب، وما وقع في خاطري أنْ أزيد معرفتي بالشّاعر، وما عناني مِنْ شواهد البلاغة إلا أنْ أسوق بين يَدَيْ الإجابة الشّاهد والمثل، وإلا أنْ ألتمس فيها ضربًا من ضروب البيان، أو المعاني، أو البديع، فنزلتْ تلك الشّواهد مفردة منتزعة مِنْ سياقها، ولا يعنيني منها، أوْ قُلْ لا يَعْني الدَّرْس والمدرِّس والدّارس، إلا وفاءها لقاعدة، أمّا ما سوى ذلك مِنْ الإلماح إلى روح الشِّعْر، ومكابدة الشّاعر الحياة فتلك ثقافة لم تنشأ البلاغة في كنفها منذ غار روح اللُّغة وانطفأتْ جذوة الحياة فيها.
انتُزِع مِنَ الشِّعْر جوهره، وتناوشتْه مباضع البلاغيّين حين أقصَوْا روح اللُّغة وترسَّموا أقْيِسة المنطق، وتحوَّلتِ اللُّغة بين أيديهم إلى رواسم باردة، ونَهَكَ البلاغيّ نفسه في تَتُبِّع استعارة تصريحيّة، هنا، أوْ مَكْنِيّة، هناك، وعسى أن يَظْفَر بجِنَاس أوْ طِبَاق أوْ توريَة.
هذا ما عيينا في طِلابه، ولم يكنْ درس البلاغة ليكلِّفنا فوق ذلك، وإنّا إذْ نقع على بيت دِعْبِل فليس ثمّة سوى تلك الرّواسم القارّة في كتب البلاغة، سقطتْ إلينا، قرنًا بعد قرن، ملتحفة ببرودة القواعد، وانتهى إلينا مِنْ روح الشِّعْر هذا الجليد البادي في (طِبَاق) بين (ضَحِكَ) و(بَكَى)، واستعارة مكنيّة في قوله: ضَحِكَ المشيبُ، شُبِّه فيه المشيب بإنسان يضحك، وحُذِف المشبَّه به، وجيءَ بشيْء مِنْ لوازمه وهو الضَّحك، ثمّ ينتهي كلّ شيْء!
نَعَمْ! انتهى كلّ شيْء ومات البيت تحت مباضع البلاغيّين، وعَلِمَ الله أنّني لم أُحِسَّ لهذا البيت روعة ولا جمالاً، إلا بعد أن اطَّرحْتُ جانبًا يُبُوسة البلاغة، وآنئذٍ أشفقْتُ على بيت دِعْبِل الذي أماتتْه البلاغة وما كان ميتًا، وانتهى به الحال إلى أن يأوي إلى ثلاجة البلاغة جَسَدًا باردًا لا يُومِئ إلى مكابدة أوْ معاناة، فليس إلى هذا يريدون، وإنّما قُصَارَاهُم أن يُمَزِّقوه أشلاء مِنَ المصطلحات البلاغيّة التي فُتِنُوا بها.
والبيت، بَعْدُ، يَرُوع بما انطوَى عليه مِنْ نُذُر الموت الذي تراءى للشّاعر، فالشَّيْب ليس حدثًا هيِّنًا، إنّه حدث وجوديّ، إنّ الأمر لا يدعو للعجب، إنّه يدعو للعطف والإشفاق، وصاحبة الشّاعر (سلمَى) ولا يعنينا هنا منها أحقيقة هي أمْ رمز لم تكنْ سِلْمًا له، ولم تَرَ في الشَّيب سوى موضع التّعجُّب، وها هو ذا المشيب يمعن في قتل الشّاعر ضحكًا وسُخْرًا.
البيت يخفي في أعطافه الحذر مِنَ الموت، وبين الضّحك والبكاء يفغر الموت فمه، يضحك المشيب فيبكي الرّجُل، وللشّيب تاريخ حزين راعب في الشِّعْر العربيّ، وما بكى الشُّعراء شيئًا بكاءهم الشَّباب، وها هو ذا دِعْبِل يَفْزَع إلى الشِّعْر يلتمس فيه طمأنينة لنفسه، وليس ثمّة إلا هذه الصَّرخة التي أمسكتِ الاستفهامات بخناق بعض:
أَينَ الشَّبابُ؟ وأَيَّة سَلَكَا
لاَ، أَينَ يُطْلَبُ؟ ضَلَّ بَلْ هَلَكا
وكأنّ الشّاعر مسَّه عارِض مِنْ خَبَل، فتناثرتْ كلمات اللُّغة فَزِعة تنبئ عنْ ذلك الاضطراب الذي نزل به، تبدأ بالسُّؤال الصَّعب "أين الشَّبابُ؟"، ويُتْبَع السُّؤال بالسُّؤال، فعسى أن يؤوب، والشَّاعر يَعْرف أنَّه يطلب المحال، وكأنَّه أدرك ذلك فنزلتْ "لا" في بداءة عَجُز البيت جِسْرًا بين الشَّكّ واليقين، أوْ كأنّ "لا" هذه الفَزِعة توطئة للحقيقة التي حاول الشَّاعر أن يتَّقيها، فكانتْ إجابتُه التي تَدَرَّجَتْ لتنبئه بفقد الشَّباب: "ضَلَّ"، ولكنَّه ليس ضلالاً، بلْ هو الهلاك، هذا المصير المفزع الذي أقرَّ به الشَّاعر في هذا البيت الاستهلاليّ.
نحن، إذنْ، إزاء حقيقة قاتمة حاول الشَّاعر أن يدفعها، ثمّ أقرَّ بها مرغَمًا، وهي أنَّ الشَّباب قدْ غادره، ثمّ ساق الشّاعر البيت الثّاني، وهو الشّاهد البلاغيّ، لِيُسَوِّغ هذه الفاجعة التي نزلتْ به، فكان هذا التَّضادّ الذي يَسْخر بمآله، وهلْ مِنْ سُخْرية تفوق الضِّحك والبكاء معًا؟!
حجبت البلاغة ذلك الرُّعْب الذي لاح في البيت الأوّل، وسَكَتَ البلاغيُّون عنْ ذلك الهَلَع، واختطفوا البيت مِنْ بيئته الرُّوحيّة التي تَنْتَهِبها أرْواح الحياة والموت، وآضَ بين أيديهم جسدًا ميتًا، يُمَنُّون أنفسهم أن ينتفعوا بأعضائه الهامدة، وتركوا للشَّاعر بؤسه وحزنه ومصيره المفزع:
قَدْ كَانَ يَضْحَكُ فِي شَبِيبَتِهِ
وَأَتَى الْمَشِيبُ، فَقَلَّمَا ضَحِكَا
* كاتب سعودي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.