قد نسمع عن مصطلح الغزو الثقافي، ولكن لم نعره اهتماما، لأن مفهوم الغزو اعتادت عليه مجتمعاتنا التي وُلِد تأريخها مغزوا أو غازيا. ومفردة ثقافة هي الأخرى غير واضحة التعريف لكثير من العرب، خاصة الطبقات العامة من الناس، أما الطبقات المثقفة فهي الأخرى تنظر إلى الثقافة باعتبارها تحصيلا علميا أو رصيدا أدبيا ومعرفيا متراكما. والحق، هو أن ننتبه إلى خطر هاتين المفردتين، وندرس ماهيتيهما، لأننا فعلا نعاني أزمة تغيير لثقافتنا، وهذا أساس مشكلتنا. لو تنبهنا إلى مفردة غزو وتأريخها، لوجدنا أنها مفردة قديمة جدا، وكانت مستخدمة عند قدامى المجتمعات البشرية. فالرومان كانوا غزاة، وخلال غزواتهم سيطروا على معظم القارة الأوربية عام 117م، لكن نلاحظ أنها سرعان ما انهدمت أو ضعفت غزواتهم لتلك البلاد. والعرب أيضا كانوا يحبون الغزو، حتى في العصر الإسلامي، نجد أن الغزو كان وسيلة للسيطرة، فنلاحظ مثلا أن الغزوات الإسلامية في العصر الأموي كثرت، وتم نشر الإسلام في بلاد الأندلس والغال والسند، لكن هذه أيضا سرعان ما ضعفت بعد ضعف السلطة أو الدولة الأموية، لأن هذا الغزو وما ذكرته أعلاه من غزو الرومان، كانا يعتمدان على السيف أو القوة. والقوة خاسرة، حسب نظريات الفيزيائيين، فنجد أن نيوتن يقول إن لكل قوة قوى أخرى مساوية لها في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه. ولذلك نرى أن الكرة تتوقف بعد أن نركلها. إذن تأثير القوة آني «زمني» وليس دائما، ولذلك فإن قانون القوة عند نيوتن يعتمد على الزمن بالدرجة الأولى. والرومان والعرب المسلمون -خلال العصر الأموي- اعتمدوا كغيرهم من الإمبراطوريات السابقة على القوة لا على العقل في استدراج الشعوب، ونحن نذكر الرومان والدول الإسلامية ليس لتقارب الفترة الزمنية بينهما، وإنما لضلوع الأولى في الذكر تاريخا ولاقتراب الأخيرة منا نسبا. اليوم، الأمر مختلف، فالعرب يواجهون عمليات غزو مكثفة، لكن هذا الغزو لا يشبه غزو الرومان أو البيزنطيين أو غزوات المغول، فهو لا يعتمد على القوة، وإنما على العقل، بالضبط كما فعلت الدولة العباسية، لكن العباسيين كانوا «فاعلا»، أما الآن فالعرب المسلمون «مفعول بهم». نلاحظ في عصرنا أن أجيالنا الجديدة لا تعرف ما العروبة، ولا تفهم ما الإسلام، فالشاب منهم إما أن يكون إرهابيا متطرفا، أو كحمار القبيلة ينقل الحنطة والشعير ولا يعرف إلى أين يتجه. وتوجد طبقة صغيرة جدا من المفكرين، لكن هذه الطبقة تعاني غزوات ثقافية بشكل مكثف، لأن أدوات الغزوات الحالية ذكية، فوسائل التواصل الاجتماعي كلها استهلاكية أقل منها إنتاجية. والإنسان بطبيعته إنتاجي استهلاكي، فإذا ازداد إنتاجه عن استهلاكه فهذا هو النجاح، أما إذا فاق الاستهلاك الإنتاج فهذه هي الكارثة، وهذا ما نراه في مجتمعاتنا العربية. ونحن أكثر الشعوب استخداما لتلك الوسائل، وأقل الشعوب تبصرا بواقعنا. فلو عدنا إلى تأريخ الشعوب العربية البدوية الريفية، نجد أنها شعوب اعتمدت على العضل في تربية مواشيها وزراعتها أرضها، واستخدمت العقل لإدارة تلك المشاريع أو الحرف التي تقوم عليها الحياة. فدول الخليج الآن -كغيرها من الدول العربية- تستورد أكثر مما تصدر، وبهذا فإن شعوبها تكون مستهكلة أكثر مما هي منتجة، وهذا هو هدف الغزاة، تحطيم الإنسان وإمكاناته العقلية والعضلية. فأكثر الشعوب العربية ترفيها هو أقربها موتا في الحياة. الإنسان لم يكن إنسانا حتى يعرف قيمة الحياة وواجباته، وبالتالي الحصول على حقوقه منها، لكن الغزاة لربما سينتصرون على الشعوب باستخدام أقوى سلاح لديهم وهو العقل، لتدمير ثقافات الشعوب التي لا تعرف -أو بالأصح- لا تريد أن تنظر إلى الماضي القريب، كي ترى كم كانت هي عظيمة، وكم لتأريخها من كبرياء وفضائل. إذن، فلننظر إلى الجانب المشرق من ثقافتنا وتاريخنا، ولنبتعد عن النظرة التشاؤمية لأخطاء ماضينا، ولكل ماض محامد ومذمات.