الهندرة أو إعادة هندسة العمليات الإدارية «reengineering» مصطلح ظهر في أوائل التسعينات الميلادية كنتيجة لتدني أداء بعض الشركات العالمية، وقام على فكرة بسيطة جدا كتبها مايكل هامر مفادها (أنه لا فائدة من ترقيع ثقوب العمل ولكن لنبدأ من الصفر).. ولما كان الكثير مؤمنا تماما بإمكانية هندرة المحسوسات لم يكن هنالك اعتراض على صرف 50 مليار دولار لأنها بالمحصلة أكسبت الشركات (المهندرة) أضعاف هذا المبلغ أرباحا صافية وخالصة من شوائب الماضي الممتلئ بالمنصرفات غير المجدية، والاستنزاف غير المبرر على بنود الإنتاج والتصنيع والصيانة. اليوم أصبح لدي قناعة كبيرة أن المجتمعات أصبحت أيضا بحاجة لهندرة (المجردات) أو غير المحسوسات، وهي العقول، وذلك بإعادة هندسة بعض الأفكار التي لا تتواكب وطبيعة العصر من حيث الإبداع والتميز والانطلاق نحو أبعاد مختلفة تحدث ضجيجا إيجابيا يدير عجلة النمو ويحقق أرباحا ومنافع أضعاف ما هو متاح، ويقدم ثورة إدارية وإنتاجية ينعم بها الجيل الجديد، ويستفيد منها العالم بأسره بعيدا عن محددات التاريخ والجغرافيا وأيديولوجيات الأفراد والمنظمات. سمعنا مرارا وتكررا خلال أواخر القرن المنصرم أن العالم بات قرية صغيرة، وما زلنا نكرر هذا القول فرحين بهذا التقارب، بيد أننا بغير قصد نسينا أن بعض أفراد البيت الواحد قد لا يعلمون عن شؤون بعضهم البعض شيئا عوضا عن أن يطلع أفراد قرية بالعشرات أو المئات -لا يجمعهم صلة قرابة مباشرة أو رحم ونسب- على ما يدور خلف جدران بيوتهم! اليوم نحن بحاجة لأن نهندر عقولنا على فهم أن ما يدور في قرية صغيرة في سفوح جبال الأبلاش الأميركية أصبح مثار تأثير محتمل على ثلة من البشر يقطنون في واد صغير على ضفاف نهر (ينسي) في سيبيريا، وأن ما يتم اتخاذه من إجراء إداري أو مالي أو تعليمي أو سياسي أو اقتصادي في قاعة في سنغافورة ربما أوجد وجها آخر للحياة في جبال أطلس شمال إفريقيا! إيماننا بهذا التقارب اللصيق بين مشارق الأرض ومغاربها سيحدث بلا أدنى شك ثورة فكرية تستدعي هندرة فكرية مفادها أنه لا غنى لأحد عن أحد.. ولا نماء لأحد بمعزل عن أحد.. ولا عز لأحد بالتغريد خارج السرب. الشركات ستظل في حاجة لأقرانها من الشركات الأخرى.. والجامعات والكليات ستظل تخطب ود مثيلاتها.. ودور الفن ستستنسخ نجاحات بعضها البعض.. وكذلك المشافي والمواصلات وقطاعات السلم والحرب. الهندرة الفكرية المعاصرة بتقديري تقتضي التعايش مع الآخر.. وقبوله كما هو.. واستنساخ أجمل ما لديه.. واستنطاق أفضل ما عنده... ولا ضير في أن يضاف بعد كل هذا التقبل والتمازج قطرات من الخلطة المحلية إن لزم الأمر لأجل الخروج بمنتج عالمي الوصف محلي الصفة! وجاء هذا اليوم -بفضل الله- الذي ننعم فيه بإيمان قيادتنا بقيمة التعايش مع الآخر والتقبل للقريب والبعيد على حد سواء، ضالتنا المنشودة الاستفادة والإفادة والبحث عن عالم يسوده السلام والاعتدال والتوسط، والبحث عن المعرفة أينما كانت، ونقل المفيد والمثير من كل أصقاع الأرض، والانفتاح بكل رزانة ورصانة على أحدث الأفكار وأجمل الأخبار في كل مجال، ونقل هذه التجارب الرائعة على تراب أرضنا لتكون نواة انطلاق لأجيال قادمة بعزم ملفت وتوثب مبهر، تنشد خيري الأرض والسماء لهذا البلد الكريم والشعب الكريم والقيادة الراشدة.. فليباركنا الإله وليحفظنا في كل زمان ومكان والسلام.