لم يدافع «المفكر الروماني إميل سيوران» قط عن الانتحار، لكنه دافع عن «الرؤية الخلاصية للموت». قال بسخرية نافذة: «أعيش فقط لأنني أستطيع أن أموت متى شئت؛ لولا فكرة الانتحار لكنت قتلت نفسي منذ زمن». وقال أيضًا: «الرغبة في الموت كانت شغلي الشاغل؛ تخلّيت من أجلها عن كل شيء، حتى عن الموت». كسب الحياة يكون في تقبّلها الكامل وتأكيدها الصلب. ففكر سيوران يمنحنا وضوحًا لا يبعث على الخوف، بل على الطمأنينة، ويجعلنا نستقر في يقين أن لا شيء يُحسم في الحياة: وهل نحتاج إلى يقينٍ آخر؟ نحن نحتمل الحياة لأن الموت يظل دائمًا إمكانية، رؤية تقودنا إلى «تحول كوني، جوهري». وعندما نصاب بالحيرة أمام تناقضات الوجود، ندرك — وقد استُنفدنا — أن الحياة نفسها هي المادة التي تُصاغ منها «قوة لا تُقاوم» تدفعنا إلى الاستمرار. وقد كتب: «أن تعيش بلا إحساس بالموت هو أن تعيش غفلة الإنسان العادي، الذي يتصرف كأن الموت ليس حضورًا أبديًا مقلقًا». وذلك لأن «التخلّص من الحياة هو حرمان النفس من متعة الضحك عليها». ينظر سيوران إلى الهاوية في عينيها، وجهًا لوجه، ويقبلها، ويمنحها شرعية في يومياته. فالوعي باللا معنى يعني «أن تكون أبعد من الدموع والشكوى، أبعد من كل تصنيف أو شكل». وهو يسخر ممن يظنون أنهم قادرون على تفسير كل شيء بصيغ نظرية أو تصنيفية، كما لو كانت الحياة مسألة جبرية. فالحياة لا تُحبس في صيغ. المطلوب إذن تطوير «بطولة مقاومة» صحية، لا بطولة فتحٍ أو قهر. ليست استقالة رواقية أمام الحتمي، بل اعترافًا بغياب الأساس أو العلة الأخيرة للوجود، ومع ذلك الاستمرار بلا مواربة. عندما نفهم أن الحياة لا تمتلك سببًا سوى جريانها ذاته، نسلّم أنفسنا لها بشغف، بلا آمالٍ جوفاء ولا معتقدات معسولة. البطولة الحقة هي الجرأة على العيش بلا أمل، بلا وعود بالخلود أو الاكتمال، مع وعيٍ بأن كل شيء مفقود، ولهذا بالذات يستحق أن نؤكد ذواتنا — بروح الدعابة — في قلب اللا معنى. كتب سيوران في شذرات المرارة: «عندما نتعلم الشرب من ينابيع الفراغ، نتوقف عن الخوف من المستقبل». وفي مقابلة متأخرة سُئل لماذا يواصل العيش إذا كانت الحياة، في نظره، بلا معنى. فأجاب بهدوء ولطف أنه، رغم شعوره الدائم بالوحدة، لا يمكنه أبدًا أن يهجر «البشر، رفاق كوابيسي». هنا يتحول فكر سيوران إلى نزعة إنسانية توحّدنا في المعاناة، في قلب الألم الوجودي ذاته. فمخاوفنا الفردية متصلة عبر سلسلة لا نهائية من الأجيال التي عانت وخافت من الموت ومن قسوة الحياة مثلنا تمامًا. ولهذا، حتى وإن عشنا آلامنا في عزلة، وحتى وإن كانت بعض أوجاعنا غير قابلة للتواصل، تبقى لدينا إمكانية فهم ألم الآخر. وعندما ندرك أن العزلة والمعاناة هما قدر الإنسان، تبدأ في التشكل جماعة تسعى إلى «قهر عدمية الزمن». قلّما كُتبت في تاريخ الفكر الغربي عبارات بجمال ما نجده في الكراس الوجداني لسيوران، عبارات تستحق أن تُعلّق وتُقرأ كل صباح كترتيل: «في هول اتساعه، يفرّ الإنسان مذعورًا من نفسه، بحثًا عن جيران يتقاسمون معه فزعه. كل فرد هو رفيق شقاء». فنحن - كما يقول - نتصافح لنسير معًا «بتواطؤ بين عزلتين». وفي مواجهة الرسائل العاطفية السكرية التي تحاول بها «ديكتاتورية النجاح والسعادة» المعاصرة التلاعب بنا («ستحقق ما تريد»، «آمن وستنجح»)، أكد سيوران أن ما يُبقينا أحياء ويدفعنا نحو المستقبل حقًا هو فراغاتنا ونقائصنا، افتقارنا إلى أساس، وعينا بأننا كائنات هاوية، ناقصة، في صراع مع العبث. «ورغم كل شيء، نواصل الحب؛ وهذا ال(رغم كل شيء) يغطي لانهاية كاملة»، كما كتب في شذرات المرارة. يا لها من فكرة جميلة أن أستمر، رغم كل شيء استمر في بطولة مؤلمة، لأنه لا يوجد شيء لنكسبه أو نغزوه، إلا ربما وعينا بهزيمتنا، ثم، ننظر في عيون بعضنا البعض، لنقول لأنفسنا، كما قال سيوران أيضا: «تهدئني بدموعك وأنت في دموعي».