لم أكن أبحث عن معنى جديد للحياة. كنت فقط أبحث عن لحظة صمت، لكن (التايم لاين) لا يؤمن بالصمت، هو يقدّم لك بدلًا عنه خلاصات جاهزة، يقول لك: هكذا تعيش... وهكذا تخطئ... وهكذا تُصلِح الخطأ. كان الرجل يتحدث بهدوء، ذلك الهدوء الواثق الذي لا يرفع صوته لأنه متأكد أن الكاميرا معه. يتحدث عن الوقت، عن الصحة، عن ضرورة أن تستمتع بحياتك قبل أن تفلت منك. ثم مرّت الفكرة، كقناعة كاملة: (الإنسان يجب أن ينتبه لنفسه أولا وألا يفرط في التضحية، لأن أحدًا في النهاية لا يستحق أن تذوب لأجله). لم أشعر بالاستفزاز. الاستفزاز سهل، أما هذا النوع من الكلام فمربك؛ لأنه لا يهاجمك... هو يربّت على كتفك بهدوء. أنا لا أكتب هنا لأدافع عن التضحية بوصفها فضيلة أخلاقية. ولا لأدين الاهتمام بالنفس. هذا المقال لا يقف في صف أحد. هو فقط يحاول أن يفهم. هناك لحظة في حياة الإنسان يتغير فيها شكل كلمة (أنا) لا تختفي لكنها تفقد وحدتها القديمة. تدخل في جملة أطول. حين يصبح لك طفل، لا يحدث الأمر دفعة واحدة. لا توقّع عقدًا داخليًا يقول: من الآن فصاعدًا، سأقدّم غيري على نفسي. الأمر يحدث ببطء، كما يحدث الصدأ... أو كما يحدث الحب. تكتشف فجأة أنك لا تستطيع أن تفرح كما كنت. الفرح، إن لم يكن مشتركًا، يبدو مبتورًا. ولا تستطيع أن تستمتع براحة كاملة وأنت تعلم أن أحدهم في بيتك متعب أو خائف. حتى الراحة، حينها، تحتاج إذنًا داخليًا. وحين تتحمّل ما يفوق طاقتك، وحين تؤجل ما تحب،وحين تقبل أعباء لم تخترها نظريًا... لا تشعر دائمًا أنك تضحّي. أحيانًا تشعر أنك تسير في الاتجاه الوحيد الممكن. العائلة لا تُدار بمنطق الحرية الفردية وحدها، ولا بمنطق الواجب وحده. هي منطقة رمادية واسعة، يختلط فيها الاختيار بالاضطرار، والحب بالقلق، والرضا بالتعب. الله لم يترك هذه العلاقات للعقل المجرد.زرع فيها شيئًا غير قابل للشرح الكامل،شيئًا يجعل الأم لا تشعر بالإهانة وهي تنظف طفلها، ويجعل الأب لا يشعر بالضياع وهو يؤجل ذاته. وحين يُقال لنا: انتبه لنفسك... لا أحد يستحق تضحية كاملة، نميل إلى الإيماء بالموافقة. الجملة مريحة، لكنها تفترض بهدوء أن كل العلاقات قابلة للمساواة، وأن الأبناء مجرد (آخرين)، ربما هنا يكمن الالتباس، لسنا مضطرين أن نكون أبطالًا. ولا أن نعيش في استنزاف دائم. لكن هناك فرقًا بين أن نعتني بأنفسنا، وبين أن نعيد تعريف أنفسنا خارج شبكة العلاقات التي صنعتنا. الإنسان، حين يحاول أن يعيش كفرد خالص، يحتاج جهدًا كبيرًا ليُسكت ذلك الصوت الداخلي الذي يربط رضاه برضا آخرين. وحين ينجح في إسكات هذا الصوت، قد يشعر بالتحرر... أو قد يشعر بشيء آخر لا اسم له. هل التضحية غريزة؟ أم عادة اجتماعية؟ هل هي اختيار واعٍ؟ أم انجراف لا نملك حياله إلا أن نسمّيه اختيارًا؟ لا أعرف. أعرف فقط أن بعض الأسئلة لا تظهر إلا عندما نُغلق الهاتف،نجلس وحدنا، نفكر: هل نحن نعيش لأنفسنا فعلًا؟ أم أننا، من حيث لا ندري، نعيش في الآخرين... وبهم؟