مع اقتراب عام 2025 من نهايته، تقف منطقة المشرق العربي أمام مشهد جيوسياسي لم تشهده منذ عقود. عامٌ حمل في طياته تحولات جذرية أعادت رسم خريطة القوى الإقليمية، من سقوط نظام الأسد في دمشق وما تلاه من إلغاء قانون قيصر الأمريكي، إلى وقف إطلاق نار هش في غزة يكاد ينهار تحت وطأة الخروقات المتكررة، وصولًا إلى توترات إيرانية-إسرائيلية تُنذر بجولة جديدة من المواجهة. تتقاطع هذه الملفات الثلاثة في نقطة محورية واحدة: مستقبل الاستقرار الإقليمي في ظل عودة إدارة ترمب إلى البيت الأبيض، بما تحمله من مقاربات غير تقليدية للدبلوماسية، وميل واضح نحو صفقات كبرى قد تُغيّر قواعد اللعبة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستتمكن المنطقة من اقتناص الفرص التاريخية التي يوفرها التحول السوري، أم أن هشاشة التهدئة في غزةولبنان وشبح المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية ستعيدها إلى دوامة الصراع؟ سوريا: عام على التحول وبريق الأمل الحذر قبل عام بالضبط، في ديسمبر 2024، شهدت سوريا لحظة تاريخية بسقوط نظام بشار الأسد بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية المدمرة. واليوم، ومع مرور عام على تولي أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية، تبدو البلاد في طريقها نحو التعافي، وإن كانت التحديات لا تزال جسيمة. الحدث الأبرز جاء مع قرار الإدارة الأمريكية إلغاء قانون قيصر للعقوبات في ديسمبر 2025، وهو قرار يحمل دلالات اقتصادية وسياسية عميقة. فمن الناحية الاقتصادية، يفتح هذا القرار الباب أمام عودة الاستثمارات الخارجية، وإنعاش القطاع المصرفي المنهك، وانتعاش السياحة التي كانت ذات يوم ركيزة أساسية للاقتصاد السوري. غير أن هذا الإلغاء جاء مشروطًا بالتزامات محددة من الحكومة الانتقالية، تشمل ضمان حماية الأقليات، ومكافحة الإرهاب، والمضي قدمًا في الإصلاحات السياسية. على صعيد ملف اللاجئين، تشير التقديرات إلى عودة أكثر من ثلاثة ملايين سوري إلى ديارهم خلال العام الماضي، فيما تتوقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عودة مليون إضافي خلال عام 2026. هذه الأرقام، رغم دلالتها الإيجابية، تطرح تحديات هائلة تتعلق بإعادة الإعمار، وتوفير الخدمات الأساسية، وإعادة دمج العائدين في نسيج اجتماعي مزقته الحرب. أما على الصعيد الإقليمي، فقد نجحت دمشق في إعادة بناء علاقاتها الدبلوماسية مع دول الجوار، لا سيما الأردنولبنان والعراق. كما شهدت الأشهر الأخيرة مفاوضات أمنية مع إسرائيل حول الوضع في الجنوب السوري، تضمنت ترتيبات لسحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة العازلة وإعادة تفعيل اتفاق فض الاشتباك لعام 1974. غير أن القلق يظل قائمًا من التحركات الإسرائيلية المستمرة في هضبة الجولان المحتلة، والتي قد تُعقّد مسار التهدئة. سوريا اليوم تقدم نموذجًا للأمل في إمكانية الانتقال من الحرب إلى السلام، لكنه أمل مشروط بنجاح الإصلاحات الداخلية، واستمرار الدعم الدولي، وتجنب الانزلاق مجددًا في دوامة الصراعات الطائفية أو التدخلات الخارجية. في المقابل، يبدو المشهد في غزةولبنان أكثر قتامة. فاتفاق وقف إطلاق النار يواجه تحديات جوهرية تُنذر بانهياره. المفاوضات حول المرحلة الثانية من الاتفاق تراوح مكانها وسط خلافات عميقة، في حين توثّق التقارير الدولية أكثر من 800 خرق إسرائيلي للهدنة منذ بدء سريانها. أما في لبنان، فالوضع لا يقل خطورة. التهديدات الإسرائيلية المتكررة بشن عملية عسكرية واسعة لنزع سلاح حزب الله تُلقي بظلالها على الاستقرار الهش في البلاد. وفي غياب ضمانات دولية حقيقية للتهدئة، يبقى الجنوب اللبناني برميل بارود قابلًا للانفجار في أي لحظة. والمقلق أن أي تصعيد في لبنان سينعكس حتمًا على الوضع في سوريا المجاورة، مما قد يُهدد مكتسبات الاستقرار التي تحققت بشق الأنفس. تقف المنطقة اليوم على مفترق طرق حقيقي. من جهة، تُقدم سوريا نموذجًا للتحول الممكن من الدمار إلى إعادة البناء، ومن الحرب إلى السلام. ومن جهة أخرى، تُنذر الهشاشة في غزةولبنان والتوتر مع إيران بإمكانية العودة إلى دورة الصراع والدمار. ما تحتاجه المنطقة اليوم هو دبلوماسية عربية نشطة وفاعلة، تدعم مسار إعادة الإعمار في سوريا، وتضغط من أجل احترام وقف إطلاق النار في غزة، وتعمل على تجنيب لبنان مخاطر حرب جديدة. كما تحتاج إلى موقف دولي واضح يُلزم جميع الأطراف باحترام السيادة الوطنية والقانون الدولي. عام 2026 قد يكون عام السلام والاستقرار إذا سادت الحكمة وتغلبت المصالح المشتركة على حسابات التصعيد. لكنه قد يكون أيضًا عام العودة إلى الصراع إذا انتصرت منطق القوة على منطق السلام. الخيار لا يزال بيد صانعي القرار في المنطقة والعالم، والتاريخ لن يرحم من يُضيّع هذه الفرصة.