يُحكى أن فتاةً صغيرة كانت تراقب أمها، وكلما أرادت طهي السمكة قطعت رأسها وذيلها قبل أن تضعها في المقلاة، فسألتها باستغراب: لماذا تفعلين ذلك؟ فقالت الأم: هكذا تعلمت من جدتك، وحين سألت الجدة قالت: وهكذا تعلمت من أمي، فذهبوا إلى الجدة الكبرى، فابتسمت وقالت: لأن المقلاة في زماننا كانت صغيرة، فكنت أقطع الرأس والذيل حتى تسع السمكة. تغير السبب وبقي الفعل؛ فصار ما كان حلًّا مؤقتًا عادةً لا تُسأل. هذه الحكاية ليست عن السمكة، بل عن عاداتٍ نكررها لأننا اعتدناها، لا لأننا فكرنا فيها؛ تبدأ العادة بسببٍ ما، ثم تستمر، ثم تتحول مع الزمن إلى «شيء طبيعي»، وبعد سنوات يختفي السبب وتبقى العادة، ويصبح الاعتراض عليها كأنه خروج عن النظام. ولتبسيط الفكرة علميًا، تكفي تجربة الامتثال الشهيرة التي أجراها عالم النفس الاجتماعي سولومون آش عام 1951؛ كانت المهمة بسيطة جدًا: مقارنة أطوال خطوط على ورقة، لكن المجموعة تتفق مسبقًا على إجابة خاطئة، ثم يُطلب من الشخص أن يجيب بصوتٍ مسموع بعد سماعهم، فكانت النتيجة أن كثيرًا من الناس سايروا المجموعة رغم أن الخطأ واضح؛ وتكرر ذلك في حدود ثلث الإجابات في المواقف الحاسمة، كما أن معظم المشاركين سايروا مرة واحدة على الأقل. والمثير أن دراسة حديثة نُشرت عام 2023 في دورية «بلوس ون» أعادت التجربة وخرجت بنتائج قريبة؛ والرسالة هنا واضحة: المشكلة ليست في صعوبة السؤال، بل في ضغط الجماعة. وهنا مربط الفرس تربويًا: إذا كان ضغط الجماعة قادرًا على جعل الإنسان يساير خطأً بيّنًا في أمرٍ بسيط، فكيف بعادةٍ تعليمية تكررت سنوات، ثم صارت محمية بعبارات مثل: هذا هو النظام، ولا نريد إرباك الميدان، وهكذا اعتدنا؟ عندها يتحول التطوير إلى مغامرة، ويصبح السؤال العلمي عبئًا بدل أن يكون بداية إصلاح. لهذا تعيش العادات داخل المؤسسات أطول من أعمار أسبابها؛ لأن المؤسسة لا تنقل الإجراءات وحدها، بل تنقل معها رسالة غير مكتوبة تقول: لا تسأل كثيرًا. وقد لخّص الباحثان بلاك وويليام في مراجعة بحثية مؤثرة عام 1998 معنى بالغ الأهمية؛ وهو أن الإنصاف في الحكم على تعلم الطالب لا يُبنى على اختبار أخير فقط، بل على متابعة تقدمه أثناء العام، وتصحيح مساره قبل أن تتسع الفجوات. ولأن القارئ يحب الوضوح، فهذه عادات تعليمية انتهى وقتها، لكنها ما زالت معنا، مرتبة من الجذر إلى الأثر: 1. اختزال التعليم في المعلومات؛ فيصبح السؤال: كم حفظ؟ بدل: ماذا فهم، وماذا يستطيع أن يفعل؟ ويكفي أن نقرأ فلسفة برنامج «بيزا» لدى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية؛ فهو يقيس توظيف المعرفة في الحياة، لا ترديدها. 2. ربط التفوق بالحفظ؛ فينجح الطالب في الورقة، ثم يتعثر حين يُطلب منه تفسير الفكرة أو تطبيقها في موقف جديد. 3. اعتبار التعليم الجيد هو الأصعب؛ فنخلط بين العمق والتعب، وبين الجودة والمعاناة، ثم نزرع كراهية المدرسة في النفوس ونحن لا نشعر. 4. تحويل المعلم إلى مصدر وحيد للمعرفة؛ بدل أن يكون قائد تعلم يفتح الباب للسؤال والبحث والتجربة، ويعلّم الطالب كيف يصل إلى المعرفة لا كيف يكررها. 5. حصر التعلم في الكتاب المدرسي؛ ويكفي أن تُقاس الحصة بسؤال: إلى أين وصلتم؟ فيكون الجواب رقم الصفحة، لا فكرة الدرس ولا أثره. وقد نبه خبير سياسات التعليم أندرياس شلايخر في كتابه الصادر عام 2018 إلى أن التعليم القوي لا يقوم على كتاب واحد، بل على معلم قادر، وخبرة تعلم ثرية، وتقويم يركز على الأثر. 6. تقديس الاختبارات النهائية؛ فيتحول عام كامل إلى اختبار ساعتين، وتصبح ورقة واحدة هي الحكم على طالبٍ عاش عامًا كاملًا من المحاولات والتقدم والتعثر. 7. معاملة الطلاب كأنهم نسخة واحدة؛ مع أن قدراتهم وميولهم تختلف، والإنصاف ليس أن نطابق بينهم، بل أن نمنح كل طالب فرصة عادلة ليُظهر ما عنده. 8. مقررات بعيدة عن واقع الطالب؛ يدرس النسبة المئوية فصلًا كاملًا، ثم لا يحسن حساب خصم بسيط في متجر، ويحفظ قواعد في العلوم ثم لا يربطها بما يراه في حياته اليومية. 9. تجاهل مهارات الحياة الأساسية؛ يتخرج وهو لا يحسن تنظيم وقته، ولا إدارة مهمة طويلة، ولا عرض فكرة بوضوح، ثم نستغرب الفجوة بين المدرسة ومتطلبات الواقع. 10. تخويف الطالب من الخطأ؛ فيتعلم كيف ينجو لا كيف يتعلم، ويخاف المحاولة بدل أن يحبها، فتتجمد قدرته على التجربة والنمو. الخلاصة أن كثيرًا من عادات التعليم ليست ثوابت، بل حلول تجاوزها الزمن؛ فإذا قدّسناها دُرنا في حلقتها، وأضعنا أهداف تعليمنا، ثم نستغرب: لماذا لا يتطور شيء؟