إذا كانت العلامات اللغوية لا تحيل إلى الواقع الخارجي الموضوعي إحالة مباشرة، ولكنها تحيل إلى «التصورات» و«المفاهيم» الذهنية القارة في وعي الجماعة وفي لا وعيها كذلك فمعنى ذلك أننا مع اللغة في قلب «الثقافي». والثقافي وإن كان يتجلى في أكثر من مظهر كالأعراف والتقاليد وأنماط السلوك والاحتفالات الشعائرية والدينية والفنون فإن «اللغة» تمثل النظام المركزي الذي يعبّر عن كل المظاهر الثقافية. من هذه الزاوية يقول علماء السميوطيقا أو علم العلامات إن «الثقافة» عبارة عن أنظمة متعددة مركبة من العلامات يقع في قلب المركز منها «نظام العلامات اللغوية» لأنه هو «النظام» الذى تنحلّ إليه تعبيريا باقي الأنظمة في مستوى الدرس والتحليل العلميين. وإذا كان البُعد «الثقافي» هذا هو الذي يميز الوجود الإنساني ليفصله عن الوجود «الطبيعي» الحيواني مثلا، بحيث يمكن القول إن الإنسان حيوان ثقافي أي قادر على تمثل وجوده في العالم من خلال أنظمة العلامات فإن «الثقافة» ليست قيمة مضافة يمكن تصور الوجود الإنساني من دونها إلا على سبيل «الوهم» و«التقدير» كما يقول القدماء، أي على سبيل الافتراض. لكن بعضهم يفهم «الثقافة» بوصفها بُعدًا ناتجًا عن عملية «التعليم» الحديثة وأثرًا من آثارها، منطلقًا في ذلك من الاستخدام الشائع للفرق بين «المثقف» أي المتعلّم و«الجاهل». وهذا الاستخدام العامي الذى يضع «الثقافة» في مقابل «الجهل» استخدام غير صائب من الوجهة العلمية والمنهجية، فالثقافي علميًا ومنهجيًا يقابل «الطبيعي». والغريب أن بعض الأكاديميين لا يكادون يفارقون هذا الاستخدام العامي الذى يضع «الثقافة» في مقابل «الجهل»، هذا رغم أن جميعهم يُعلِّم ويكرر القول دون فهم إن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام كان «أميًا» لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه لم يكن «جاهلا»، ولا ينكر أحد أنه كان من صفوة مثقفي عصره، وكذلك كان أصحابه. إن «الثقافة» تعنى تحوّل الكائن من مجرد الوجود الطبيعي إلى «الوعي» بهذا الوجود. وهو وعي يفصله عن الموجودات الطبيعية الأخرى غير الواعية ويسمح له بالسيطرة عليها. قد تتفاوت مستويات هذا الوعي من مرحلة إلى مرحلة أخرى زمانيًا، وقد تتفاوت بين جماعة وجماعة أخرى، بل قد تتفاوت بين الأفراد في المجموعة البشرية الواحدة. وهذا يسمح للباحث بالحديث عن «تعدد ثقافي» في بنية الثقافة الخاصة بمجتمع ما أو بمجموعة بشرية معنية. إذا كانت «الثقافة» هي تصور العالم لدى مجموعة بشرية بعينها مع التسليم بتفاوت مستويات هذا التصور فإن اللغة هي «النظام» المعبّر عن هذا التصور، وهي من ثم لا تمثل نظامًا ذا مستوى واحد، بل تتعدد مستوياتها بتعدد مستويات «الثقافة» التي تعبّر عنها. ولأن «العالم» في وجوده الموضوعي المستقل عن الوعي لا ينعكس في التصورات والمفاهيم الثقافية انعكاسًا آليًّا، وذلك لأن للعالم قوانين من حيث وجوده المستقل تختلف عن قوانين تشكل المفاهيم والتصورات في الوعي، فليس من المنطقي القول إن «اللغة» تعكس التصورات والمفاهيم عكسًا آليًا، وذلك لأن للغة قوانينها التي تختلف عن قوانين تشكل المفاهيم والتصورات في الوعي. ومعنى ذلك أننا إزاء ثلاث حقائق مستقلة عن بعضها بعضًا استقلالا من نوع خاص، أي استقلال لا ينفي «التداخل» و«التوالج». ويمكن وضع العلاقة إذن على مستوى أفقي لا رأسي تجنبًا لتوهم الأسبقية أو الأولية. الحقيقة الأولى هي «العالم» بكل ما ينتظم فيه من حقائق طبيعية واجتماعية، والحقيقة الثانية هي «الثقافة» بكل ما تنتظمه من مظاهر ومجالات وأنظمة علامات. والحقيقة الثالثة هي «اللغة» بكل ما تنتظمه من قوانين. والعلاقة بين هذه «الحقائق» الثلاث تختلف بحسب المنظور الذي يرتبها وينظمها، فلو تبنى الباحث المنظور الأنطولوجي، أي البدء بالوجود، كمفهوم وليس كماهية، فإنه يضع «العالم» أولا، ثم «الثقافة» ثم «اللغة». ولو بدأ من منظور إبستمولوجي، أي معرفي، فإنه يضع «اللغة» أولا، ثم «الثقافة» ثم «العالم». ولو نظر الباحث من منظور «تركيبي» فإن العلاقة لا بد أن تأخذ شكل «الدائرة». 1992* * باحث وأكاديمي مصري «1943-2010».