هل صحيح، كما جزم الشاعر سيزار بافيس، أننا «يجب أن نعيش دائما كما لو كنا نبدأ الآن وننتهي بعد لحظة»؟ الحقيقة أن هذا الاقتراح يشبه تلك النصائح الوجودية التي تُلقى علينا في الصباح كالقهوة: مُرّة، ضرورية، ولا نعرف هل توقظنا أم تربك جهازنا العصبي. إنها جملة تلمع مثل نصيحة من خبير تطوير ذاتي، لكنها مع ذلك تصيب شيئًا عميقًا. فربما وربما فقط يمكن للتفكير في «المرة الأخيرة» أن يجعلنا نحب أفضل، أو نخدع أنفسنا أفضل، أو نتظاهر بأننا عقلاء، كما يفعل معظم البشر منذ اختراع الفلسفة. أن تحب اللحظة لأنها لحظة، لا لأنها تمهيد لشيء آخر، يشبه أن تقرر فجأة أنّك لن تنتظر مكافأة من الحياة، بل ستأخذ منها ما تجود به، حتى لو كان كما غنّى طلال مداح في رائعته «لا وعد»: «ومالك معي غير الثواني اللي يرضاها الزمان». فالزمان ذلك الفيلسوف الصامت لا يعطي أحدًا أكثر من الثواني، والإنسان الرشيد هو من يتعلم حياكة معنى من هذا الفتات. وهذا هو جوهر ما حاول نيتشه قوله حين حشر العالم كله داخل فكرة «العودة الأبدية»: عش الآن كما لو أن الكون سيعرض عليك هذه اللحظة إلى الأبد، ولن يمل منك أنت بالذات. لكن هل نستطيع احتمال تكرار اللحظة؟ خاصة وأن كثيرًا من اللحظات لا تصلح للعرض الأول، فكيف بالعرض المتكرر؟ من يملك الشجاعة ليعيش مرتين تلك الاجتماعات المملة، أو تلك الاعترافات الفاشلة، أو تلك الساعات التي نحاول فيها تصنيع معنى من الفراغ؟ ومع ذلك، تدعونا الفكرة إلى أن نجعل الحياة مسبحة من لحظات لا نخجل منها، أو على الأقل لا نندم عليها كثيرًا. ينصحنا فيكتور إي فرانكل بقوله: «عش كل لحظة كما لو كنت تعيشها مرة ثانية». سواء كانت نظرية العودة الأبدية أو الحياة التي نعيشها في نسختين، أرى في كلتا الحالتين طريقة لتعليمنا أن نحب اللحظة ليس بسبب مدتها المحدودة، ولكن بسبب جودتها. نصيحة لطيفة، لو أن لحظاتنا كانت مصنوعة من الحرير وليس من صدمات صغيرة تتناثر في مشهد حياتنا دون أدنى احترام للتناغم الدرامي. الفكرة كلها تحاول تعليمنا حب اللحظة ليس لأنها ستهرب، بل لأنها تحمل «جودة» معينة، نكهة لا يمكن تكرارها حتى لو عادت بشكل متطابق. فكل لحظة تختلف عن سابقاتها كما يختلف الشخص الذي كنّاه البارحة عن الشخص الذي نرتديه اليوم. في فيلم الخيال العلمي «أحبك، أحبك» (1968) لآلان رينيه، يعود كلود إلى اللحظات نفسها، لكنه يعود إليها بوعي رجل تغيّر. فهو يعيد الماضي، لا ليفهمه، بل ليواصل صيرورته بطريقة ساخرة: إننا لا نعيش لحظة بعد أخرى؛ إننا نتحرك داخل تيار من الحاضر يعيد تشكيل الذاكرة، وذاكرة توقظ أخرى، والمستقبل في آخر القاعة يلوّح لنا بسخرية خفيفة. ولأن العالم لا يحب الحدود، جاءت فكرة «العودة الأبدية» لتسخر من خوفنا من التكرار. حتى لو عاد المشهد ألف مرة، فهو لن يكون نفسه أبدًا، لأننا نحن لا نبقى أنفسنا. وكما قال يانكيليفيتش: «كل شيء جديد دائمًا تحت الشمس، حتى البدايات الجديدة!». يا لها من لطمات فلسفية ناعمة! لا شيء في الحياة يمكن أن نعيشه «كما لو كان للمرة الأخيرة»، لأن كل شيء واقعيًا هو بالفعل المرة الأخيرة. ومع ذلك نتمسك بما تبقى: إيماءات أخيرة، كلمات أخيرة، لحظات أخيرة. نحن كائنات تعيش في البحث عن النهاية حتى وهي تصرخ. الموت ضرورة، لكن هذا لا يقلل من عبثيته. بل لعل عبثيته هي ما تجعلنا نتماسك. نزداد حكمة؟ ربما. نزداد جنونًا؟ غالبًا. لكننا رغم كل شيء نواصل المشي داخل الحياة، نحمل تناقضاتها كما يحمل سقراط كأس السمّ وكأنه يحمل فنجان قهوة. العيش فنّ لا يمكن إتقانه، لكن يمكن ممارسته، بخفة، بسخرية، وبقناعة تشبه حكمة طلال مداح، والتي بتشريحها قد نصل الى القول بأن الزمان لا يعطيك كل شيء... لكنه يعطيك ما يكفي لتجرب مرة أخرى.