⸻⸻⸻⸻⸻⸻ يسمّونني أبو البنات، ويظنونها سخريةً عابرة، لكنها عندي أشبه باعترافٍ طويل بالهزيمة والحنين. الكلمة التي يطلقونها بخفّة، أحملها أنا كحجرٍ في صدري، أثقل مما يتصوّرون. كل شيء بدأ في ذلك الصيف القاسي من 2021. كورونا كان يلتهم الأرواح حولنا، وأنا أراقب جسدها يذبل سريعًا، كشمعةٍ تحترق حتى آخر قطرة من شمعها. لم يكن الألم وحده ما يحاصرني، بل العجز.. والعجز هو أفظع ما يعيشه إنسان، أن ترى نور عينيها يخفت فجأة، وأنت لا تملك إلا النظر. رحلت.. وتركتني في منتصف الطريق. لم أكن مستعدًا لدور الأب والأم معًا، لكن البنات لم يسألن، ولم يمهلن. وجدت نفسي أحنو أكثر مما يليق برجلٍ يدّعي الصلابة. صرت ألين، أتجاوز، أنحني أمام دموع صغيرة، وأضحك لضحكاتٍ طفولية أعرف أن وراءها خوفًا مكتومًا من غيابٍ لن يعود. منذ ذلك اليوم، صار ضعفي معهن جزءًا من حياتي. لم أعد أحتمل حكاية عن طفلةٍ مكسورة أو امرأةٍ مُعنّفة. صرت أرى فيها انعكاسًا للبنتين اللتين تنامان في الغرفة المجاورة. كأن قصص النساء جميعًا امتزجت بقصتنا نحن الثلاثة، فأصبحت أخاف عليهن من العالم، وأخاف على العالم منهن إن انكسرن. قد يقول قائل إنني متحيّز، وأعترف أنني كذلك. البنات عندي لسن كائناتٍ ثانوية، ولا «الجنس الآخر». إنهن الامتداد الوحيد لامرأةٍ غابت، والمرآة التي تذكّرني كل يوم أنني لم أكن كافيًا لها، ولا لهن. وحين ينادونني أبو البنات، أبتسم في صمت. أبتسم لأنهم لا يعرفون. لا يعرفون أنّ خلف الكلمة دمعةً قديمة لم تجف، ولا يسمعون الوصايا التي أرددها في داخلي كل ليلة: أن أحميهن، أن أغفر لهن، أن أكون الأب الذي يتجاوز كل هفوة، لأنني لم أنجح في أن أكون الزوج الذي ينقذ. لقد تحوّل تحيّزي لهن إلى نوعٍ من التوبة. توبة متأخرة عن لحظة عجز قديم، عن صمت أمام موتٍ لم أستطع أن أوقفه، وعن صرخة مكتومة ما زالت عالقة في حنجرتي منذ تلك الليلة. في النهاية، لم أعد أرى في الانحياز ضعفًا، بل صلاة طويلة أرفعها كل يوم. صلاة لا كلمات فيها، فقط خوف ودموع وحب. صلاة أؤديها أمام الله وأمام الحياة.. كي لا يسقط جناح آخر، وكي تبقى البنات واقفات، يضيئن لي الطريق الذي انطفأ ذات صيف.