لم تعد الفوضى اليوم مجرّد لحظة اضطراب عابرة في التاريخ، بل أصبحت أسلوب حياة لدى البعض ومشروعًا ممنهجًا لدى آخرين. فالدول لم تعد بحاجة إلى الحروب كي تنهار بل يكفي أن تتدفق المعلومات بلا ضابط وأن تتداخل الحقائق بالشائعات حتى يتآكل الوعي من الداخل. في زمن وسائل التواصل الاجتماعي صارت الفوضى أكثر حضورًا وفاعلية من أي وقت مضى، ووَجَد فيها بعض المغرضين والمنتفعين موطئ قدم لتمرير أجنداتهم الخاصة، وتحقيق نفوذهم على أنقاض الثقة العامة. الفوضى لم تعد غياب النظام، بل نظام موازٍ يُدار بذكاء من خلف الشاشات. إنها لعبة إرباك العقول وتشويش الوعي وتمزيق النسيج الاجتماعي. في عالمٍ تتقاطع فيه آلاف الأصوات يوميًّا تضيع الحدود بين الصادق والزائف، ويختلط صوت الحقيقة بضجيج الادعاء. في تلك البيئة الرقمية المنفلتة يزدهر أصحاب الأغراض الهدامة فيعملون على إذكاء الخلافات ويزرعون الشك ويُحركون الجموع بكلمات تُكتب بذكاء وتُتداول بسطحية. هم قلّة من حيث العدد، لكن تأثيرهم كبير ويتضخّم بما يبثّونه من سموم خادعة؛ لأن الفضاء المفتوح لا يفرّق بين الرأي والمغالطة، ولا بين الخبر والتهييج. الذين يعيشون على الفوضى لا يريدون البناء بل يستمدّون قوتهم من الهدم، فالوضوح يفضحهم والاستقرار يُقصيهم، لذلك يحرصون على أن تبقى المجتمعات في حركة قلقة دائمًا، والناس منشغلين عن التفكير فيما هو أهم. وبقدر ما تتسع الفجوة بين الناس وتضعف ثقتهم بمؤسساتهم يزداد نفوذ أولئك الذين يجيدون إشعال النار تحت الرماد. الفوضى لا تدوم بذاتها لكنها تُغذّى كل يوم بما يُنشر ويُعاد تداوله في فضاءٍ لا يخضع لأي ميثاق أخلاقي، وهكذا يتحول الاضطراب إلى مشروع مستمرّ تُعيد إنتاجه أجيال اعتادت الصخب أكثر مما اعتادت سكون العدالة. ومع كل ذلك الصخب وتلك الفوضى الفضائية يظل الوعي صامدًا لا يموت؛ فمهما ارتفع الضجيج، يظل عابرًا، يلمع لحظةً ثم يتلاشى كأنه لم يكن. لأن الإنسان السوي به نورٌ أصيلٌ يهديه إلى الصواب ويبدد ما قد يتكون لديه من حيرة أو اضطراب، ولديه ميزانٌ فطريٌّ يحفظ له اتزانه. وهكذا يبقى الوعي هو الحقيقة الهادئة وسط صخب العابرين، يمنح الحياة معناها، والحرية توازنها، والإنسان إنسانيته.