«اتفاق غزة» في خطر، وسيبقى كذلك، طالما أن واشنطن لا تستطيع ضبط السلوك الإسرائيلي. لن تعود الحرب إلى وتيرتها السابقة، لكن إسرائيل توصلت، عبر عشرات الانتهاكات، إلى فرض حال من الاعتداءات الدائمة وتسعى إلى تثبيتها، وجمدت عملياً تطبيق الاتفاق فلم ترسل وفداً إلى القاهرة للبدء بمفاوضات المرحلة التالية، كما لم تسمح بفتح معبر رفح الوحيد الذي يمكن أن يحدث انفراجاً حقيقياً في وصول المساعدات إلى سكان غزة. وعلى الرغم من صدور الرأي القانوني في دور الأممالمتحدة ووكالة «الأونروا»، وضرورة تسهيل مهمتهما في إدخال المساعدات بلا عوائق، فإن إسرائيل استمرت في استبعاد هذه الوكالة التي كان قطاع غزة يعول على دورها الحيوي في مختلف المجالات الحياتية. حتى أن وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو كرر الاتهام الإسرائيلي ل «الأونروا» بأنها «تابعة لحماس، ولا دور لها في مستقبل غزة»، بل تحدث عن بدائل تتمثل بعشر وكالات أخرى، ومن الواضح أنه لا يدرك حجم الأضرار المستقبلية التي تحملها اتهاماته. بدأ الأسبوع الثاني لتطبيق «اتفاق غزة» بحملة جوية تباهى بنيامين نتنياهو بأنها ألقت 153 طناً من القنابل فوق القطاع، تحديداً فوق رفح وشملت أيضاً مناطق عدة، بعد حادث قُتل فيه ضابط وجندي إسرائيليان، وتبرأت منه «حماس» و«كتائب القسام»، وقد اتهمتهما إسرائيل ولم تتهمهما واشنطن، إذ بات لديها مركز لمراقبة وقف اطلاق النار. كان ذلك نموذجاً مبكراً لوقائع ستأتي، لذا سارع المبعوثان الخاصان ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر إلى مصدر المتاعب التي استشعرها البيت الأبيض، أي إلى إسرائيل التي لم تستوعب بعد أن الحرب انتهت، وبقرار ليس منها. ثم وصل نائب الرئيس جي دي فانس، وما إن غادر حتى حطت طائرة روبيو. لم يكن ممكناً ترك نتنياهو وزمرته يعبثان ب«خطة ترمب» ويعملان على إفشالها. فانس ليس مناوئاً لإسرائيل، لكنه يمثل الجناح الأكثر شوفينية في تيار «ماغا» الترمبي ولا يحبذ الاستمرار في إنفاق الأموال على المغامرات الإسرائيلية. ومع أنه استُقبل بحفاوة وقابلها بدفق التهديدات والتحذيرات ل«حماس»، إلا أن محادثاته مع الإسرائيليين ظلت عقيمة. ثم جاء التصويت التمهيدي في الكنيست على قانون ل «فرض السيادة» على الضفة الغربية، أي لإعادة احتلالها وضم أراضيها، ودان فانس هذا التحرك «الغبي»، كما وصفه، واعتبره «إهانة شخصية»، بل أعلن أن «سياسة ترمب لا تسمح بضم الضفة». لا بد أن فانس تذكر أن إسرائيل وجهت إهانة مماثلة لنائب رئيس أمريكي آخر هو جو بايدن، الذي زارها عام 2010 وتوصل إلى تفاهم مع نتنياهو على وقف التوسع الاستيطاني لإحياء المفاوضات مع الفلسطينيين، وما إن غادر حتى أعلن نتنياهو مشروعاً كبيراً لبناء مستوطنات. في الأثناء نُشرت مقابلة لترمب مع مجلة «تايم»، وفيها يقول إن إسرائيل «ستخسر دعم الولاياتالمتحدة إذا ضمت الضفة». لكن ترمب كان يراهن على براغماتية وزير خارجيته ونتائج مهمته، فكلمة السر في الإدارة حالياً هي «نجاح خطة ترمب». طوال مسيرته السياسية، حافظ روبيو على خط صهيوني واضح، فهو يدعم إسرائيل بتفان شبه عقائدي. وفي المحادثات أبدى روبيو استياء واشنطن من «مفاجآت إسرائيل» وعدم تسامحها في تقويض الاتفاق، لكنه جاء لترميم التفاهم معها عارضاً تنازلات. بعضٌ من هذه التنازلات اتضح، مثل إطاحة مشاركة تركيا في القوة الدولية رغم أنها إحدى الدول الضامنة والموقعة على الاتفاق، ومنح إسرائيل «حق النقض» ضد دول أخرى لا «ترتاح» إليها، وقد تتضح أكثر في صيغة القرار الأممي الخاص بانتداب القوة الدولية إلى غزة. أما البعض الآخر فكُتم لكنه سيظهر حتماً خلال تطبيق الاتفاق، وقد يكون أهمها تسويغ الانتهاكات الإسرائيلية (كما في لبنان) بمواصلة القتل اليومي، وكذلك تضييق الحصار وتقييد المساعدات الغذائية (لا لحوم ولا دجاج بل معلبات) وحتى المستلزمات الطبية ومواد الإيواء الشتوية، وبالطبع اشتراط فرض وجودها على معبر رفح للسماح بفتحه... وكل ذلك بذريعة الضغط لاستعادة جثامين الرهائن الذين قتلتهم طائراتها. إذا اتفقت واشنطن مع إسرائيل على التلاعب بطريقة تطبيق الاتفاق بمعزل عن الأطراف الأخرى، فهذا سيعني أنهما في صدد إدخال تعديلات على هذا الاتفاق. أكثر من ذلك، سيعني أن واشنطن ترتضي إفساد الاتفاق ليصبح ملائماً لإسرائيل. لكن الأخيرة لن تكتفي بما تحصله من تنازلات، وستفرض شروط احتلال يُفترض أن الاتفاق يحرمها منه. فبعدما وضعت «فيتو» على تركيا قد تبتز «قوة الاستقرار الدولية» وتتدخل في مهمتها، لأنها تعارض أصلاً أي وجود دولي على أرض تحت سيطرتها. ولديها كل الذرائع التي لا تستطيع واشنطن ممانعتها: جثامين قد لا يُعثر عليها، ضرورة استخدام القوة في نزع سلاح «حماس»، إغلاق الأنفاق بإشرافها، التحكم بالمعابر والمماطلة بسحب قواتها. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»