انبثق مشروع تطوير المرحلة الثانوية في السعودية كخطوة إصلاحية طموحة، استلهمت تجارب الدول المتقدمة التي نجحت في جعل التعليم الثانوي جسرًا بين المدرسة والحياة، وبين المعرفة والعمل. كان الهدف أن يخرج الطالب من الثانوية وهو يعرف نفسه، ويعي قدراته، ويستثمرها في اختيار مستقبله بوعي ومسؤولية، لا أن يظلّ متلقيًا ينتظر من يقرر عنه. غير أنّ الفكرة الجميلة وُئدت حين حوصرت داخل إطار المنهج التقليدي والكتب الموحدة، ففقدت روحها الحية، وتحولت من مشروع لتكوين الطالب وتوجيهه نحو مستقبله إلى مشروع لتعدّد المقررات. في الفكر التربوي يرى ديوي وتايلر وبرونر أنّ المرحلة الثانوية ليست لإعداد الطالب للاختبار، بل لبناء قدرته على اتخاذ القرار؛ فهي مرحلة التمكين الذاتي، حيث يتعلم المتعلم كيف يفكر، ويجرّب، ويتحمّل مسؤولية اختياره. ولهذا نجد في الدول الرائدة نماذج مختلفة لكنها تشترك في الفلسفة نفسها؛ ففي فنلندا يُتاح للطالب أن يختار بين المسار الأكاديمي أو المهني بعد عامٍ من التجريب والزيارات الميدانية والتعلّم بالمشروعات، ويمكنه الانتقال بين المسارين دون أن يُغلق الباب خلفه. وفي ألمانيا وسويسرا يعيش الطلاب تجربة التعليم المزدوج، فيتعلّمون في المدرسة ويمارسون المهنة في المصنع أو الشركة، فيجمعون بين النظرية والتطبيق. أمّا في كندا، فثمّة عامٌ كامل يسمّى «عام الاستكشاف المهني» يُتيح للطالب أن يختبر الجامعات والمصانع والمنظمات قبل أن يختار مستقبله. في مدارسنا برز التناقض بين الفكرة والتصميم؛ فقد حاولنا أن نُطبّق «المنهج المحوري» داخل منظومةٍ تقوم أصلًا على المقررات والكتب الموحّدة، فاختنقت الفكرة في قالبها القديم. فالمنهج المحوري لا يمكن أن يعيش داخل منهج المقررات؛ لأنه يقوم على التجربة والممارسة والمشروعات، بينما المقررات تقوم على التجزئة والحفظ والاختبار. لقد كانت فكرة منهج حي يبحث عن الفعل، وقولبتَه في إطارٍ جامدٍ يقدّس النص؛ فكانت النتيجة مثل من يضع هيكلًا زجاجيًا على بيتٍ من الطين، مظهرٌ جديد على أساسٍ قديم، لا هو أصيل ولا هو حديث. المنهج المحوري في جوهره يقوم على غرس قيم العمل والإنتاج من خلال التعلّم بالمشروعات، وتنظيم الزيارات الميدانية، ومساعدة الطلاب على اكتشاف قدراتهم وميولهم واستثمارها في مجالاتٍ تناسبهم. وهو لا يعتمد على تقييم المقررات أو الكتب الموحّدة، بل على تقويم الأداء الواقعي للمتعلم من خلال الممارسة والمشروعات والمواقف العملية، ومدى توظيفه لما تعلّمه في الحياة. إنّه منهجٌ يربط التعليم بالحياة بدل أن يفصله عنها. ومع غياب هذا المنهج تراجع الاهتمام بالمرحلة الثانوية نفسها؛ فلم تعد خيارًا حاسمًا أو مؤثرًا في مستقبل الطالب. أدرك الطلاب وأولياء أمورهم أن القبول الجامعي لا يتحدد بمسار الثانوية ولا بمستواهم الدراسي فيها، بل بدرجات اختبارَي القدرات والتحصيلي اللذين يجريان خارج المدرسة تمامًا. وهكذا عاد كثير من الطلاب إلى «المسار العام» هربًا من المسارات التخصصية التي قد تُقيدهم أو تُنهي بهم إلى اختيار خاطئ؛ لأن الفيصل النهائي لم يعد المدرسة، بل مركز القياس. وبذلك تراجعت قيمة الثانوية كمحطة تكوين، وعادت إلى صورتها القديمة قبل مشروع المسارات، وتحوّلت إلى ما يمكن تسميته «المنهج الصفري»؛ منهجٍ بلا روحٍ تربويةٍ ولا وظيفةٍ تكوينية، إذ هُمِّش دور الثانوية لحساب اختباراتٍ خارجها، فلم تعد تصنع أثرها في الطالب، ولا تحقق رسالتها في الحياة. فالمنهج الصفري هو الحالة التي يتخلى فيها النظام التعليمي عن أهدافه التربوية لصالح هدفٍ خارجيٍّ واحد؛ اجتياز اختبار معياري. وهذا ما حدث حين استُبدل مشروع بناء الإنسان بمنظومة إعدادٍ للاختبار؛ فتحوّلت الثانوية إلى مرحلة للتجهيز للقدرات والتحصيلي، لا إلى ميدانٍ لتكوين الفكر والاتجاه والمهارة. وهكذا غدت تلك الاختبارات –التي كان يُفترض أن تكون أدواتٍ مساعدة– هي التي تحدد مصير الطالب وتوجّه السياسات التعليمية، رغم أنها تُدار خارج المدرسة، وتُحضَّر لها عبر مراكز خاصة، ولا تمتلك قدرة تنبُّئية حقيقية على نجاح الطالب في دراسته الجامعية. وهذا الخلل لا يظهر في تغوّل الاختبارات فحسب، بل في ضعف صدقها التنبّئي؛ فاختبار القدرات –على سبيل المثال– يُقدَّم بوصفه مؤشرًا عامًا على استعداد الطالب الجامعي، لكنه لا يميّز بين طبيعة التخصصات ولا بين جوانب القدرات نفسها. فقد يحصل الطالب على (70) درجة كلية، تتكوّن من (45) في الجانب الكمي و(25) في الجانب اللفظي، ثم يُقبل بهذه الدرجة الموحّدة في أحد أقسام اللغة العربية أو الإنجليزية أو الشريعة، رغم تدنّي مستواه اللغوي. والعكس صحيح، فقد يُقبل طالبٌ متميزٌ لغويًا في تخصصاتٍ علميةٍ لا تعكس نقاط قوته الفعلية. وهكذا تُختزل شخصية الطالب في رقمٍ واحدٍ جامد، يُخفي وراءه تباين قدراته، ويقيسه بمعيارٍ لا علاقة له بطبيعة دراسته الجامعية أو مستقبله المهني. وقد أظهرت دراسات نقدية مستقلة في الولاياتالمتحدة –منها أبحاث كورتِز (2017) وهِس وفرانكس (2014) وتقارير مركز فيرتست (FairTest) الحديثة– أنّ الاختبارات المعيارية مثل (SAT) و(ACT)، التي استلهم منها اختبار القدرات السعودي نموذجه، لا تتنبّأ بدقّةٍ بالأداء الجامعي، بل تقتصر على قياس جوانب محدودة من التفكير اللغوي والكمي، وتغفل المهارات التحليلية والإبداعية التي تُعدّ أساس التميّز الأكاديمي. وقد بيّنت هذه الدراسات أنّ إلغاء شرط الاختبار في القبول الجامعي لم يؤثّر سلبًا في معدلات التحصيل أو التخرّج، مما يُضعف مبرّر استمرار الاعتماد على هذه الاختبارات كمؤشّرٍ للنجاح الأكاديمي. وفوق ذلك، فإنّ هذه الاختبارات لا تكتفي بضعف قدرتها التنبّئية، بل تُحدث أثرًا عكسيًا في المدرسة الثانوية نفسها؛ إذ تصرف الطلاب عن جوهر التعلّم نحو الاستعداد لاجتياز الاختبار، فتفقد الثانوية وظيفتها التكوينية، ويتراجع دورها في بناء الفكر وتنمية الاتجاهات والمهارات. وهكذا تتحوّل من مرحلةٍ لصقل القدرات إلى ساحةٍ لتدريبٍ شكليٍّ على نماذج الأسئلة، فينحصر التعليم في رقمٍ جامدٍ لا يعكس حقيقة الاستعداد أو العمق المعرفي. ولعلّ الخروج من هذا المأزق لا يكون بإلغاء المسارات، بل بهدم الإطار المنهجي القديم وبناء بديلٍ حديثٍ له. فالفكرة المحورية تحتاج إلى أدواتٍ جديدةٍ تكسر قالب المقررات التقليدية، وتعتمد على وحداتِ تعلّمٍ قائمةٍ على الكفايات والمشروعات، وعلى تعديل المسارات لتتواكب فعليًا مع متطلبات سوق العمل. والأهم من ذلك هو إنهاء هيمنة الاختبارات المعيارية الخارجية –كالقدرات والتحصيلي– بوصفها الفيصل في القبول الجامعي، واستبدالها بنظام تقييمي تكاملي يمنح الأولوية لتقويم الأداء الواقعي للطالب وملف إنجازه داخل المدرسة. وبذلك يصبح التقييم جزءًا أصيلًا من العملية التكوينية لا قوةً خارجيةً هادمةً لها، وتستعيد الثانوية وظيفتها الأساسية في بناء المتعلم وتمكينه من ذاته وحياته. لقد حاولنا أن نلحق بركب العالم المتقدم، لكننا عدنا إلى الوراء بطريقةٍ أنيقة؛ شكلٌ جديد ومنظومةٌ جامدة. لم نفشل في فكرة المنهج المحوري، بل في تصميمه؛ إذ حاولنا إحياء تنظيم منهجي حديث بأدوات قديمة. فبدل أن نجعل الثانوية مرحلةً لاكتشاف الذات واستثمار القدرات، جعلناها بوابة ضيقة بمقررات واختبارين يحددان المصير. وما لم نستعد فلسفة التعليم بوصفه وسيلةً لتهيئة الإنسان وتمكينه من الحياة، لا لقياسه بالأرقام، فستظل الثانوية عندنا طريقًا طويلًا إلى امتحانٍ قصير، لا إلى مستقبلٍ واسع.