ما أعظمَ أن يشرق في سماء العروبة ضوءٌ من أرض الحرمين، في وقتٍ غشيت فيه ظلماتُ الاضطرابِ الأفقَ، وتاهت فيه البوصلة بين مصالحٍ متبدِّلةٍ ومبادئَ تُذبح على موائد السياسة. هناك، في الرياض، حيثُ القرارُ يولَد من رحمِ الكرامة، وحيثُ لا تُباعُ المواقفُ وإن عَظُم الثمن، انبعثَ الصوتُ السعوديُّ ثابتًا كالجبل، صادقًا كالإيمان: لا اعترافَ قبل قيامِ الدولة الفلسطينية. جملةٌ قصيرةٌ في ظاهرها، لكنها تحملُ في باطنها تاريخَ أمةٍ كاملة، وعقيدةَ مبدأٍ لا يلين. لقد ظنّ الغربُ أنَّ العربَ قد أرهقتهم الهزائمُ فاستكانوا، وأنَّ الضغطَ الأمريكيَّ قادرٌ أن يُرغِمَ الرياضَ على أن تُساومَ على القدس، كما تُساومُ الأسواقُ على السلع، فخابَ ظنُّه، إذْ خرجَ الردُّ من قيادةٍ تعرفُ قدرَها، وتُدركُ أنَّ الكرامةَ لا تُقاسُ بمكاسبِ الدقائقِ ولا بترضياتِ اللحظات، بل بما يُسجَّل في صحائفِ التاريخِ من مواقفَ تظلُّ ما بقيَ الزمان. أرادت واشنطن أن تُحمِّلَ السعوديةَ وزرَ شرعنةِ الكيانِ المحتلِّ بلا مقابلٍ حقيقيٍّ، فجاء الجوابُ صريحًا: القدسُ لا تُسلَّمُ إلا لأهلها، ولا تُعانقُ يدُ التطبيعِ إلا بعد قيامِ الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة. وما ذاك إلّا امتدادٌ لنهجٍ أصيلٍ توارثتهُ المملكةُ منذُ مؤسسها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الذي خطَّ بمدادِ الإيمانِ مبدأً لم يَغِب عن أيِّ عهدٍ من عهودها: أنَّ فلسطينَ ليستْ بندًا تفاوضيًّا ولا ورقةً تُلوَّحُ بها في المؤتمرات، بل قضيةُ الأمةِ الأولى، ومِحورُ كرامتِها، وبوصلةُ ضميرِها العربيِّ والإسلاميّ. ذلك الموقفُ الذي لم يَبنِهُ وليُّ العهد على العاطفة، بل على رؤيةٍ استراتيجيةٍ تُدرِك أنَّ أيَّ اعترافٍ قبل قيامِ الدولة الفلسطينية ليس سلامًا، بل استسلامٌ يُدمِّرُ آخرَ ما تبقّى من ثقةِ الشعوبِ بقياداتِها.لقد وقفَ الأميرُ محمد بن سلمان وقفةَ القائدِ الذي يجمعُ بين العقلِ والحزم، بين الواقعيةِ والصلابةِ، بين الحكمةِ التي تُدركُ تعقيدَ العالم، والإيمانِ الذي لا يساومُ على جوهرِ الحقّ. يعلمُ أنَّ المملكةَ اليومَ ليستْ مجرّدَ دولةٍ تبحثُ عن رضا القوى الكبرى، بل دولةُ مركزٍ ورسالةٍ ووزنٍ روحيٍّ لا نظيرَ له في الأرض. لذلك لم يكن موقفُه مجرّدَ رفضٍ دبلوماسيٍّ عابر، بل إعلانًا صريحًا أنَّ السيادةَ السعوديةَ ليستْ ورقةً على طاولةٍ أمريكية، وأنَّ القرارَ السعوديَّ لا يُكتَبُ في واشنطن ولا يُملى من تل أبيب، بل يُستمدُّ من عمقِ الإيمانِ ومن ضميرِ الأمةِ الذي يسكنُ مكة والمدينة. ولئن قال الوزيرُ الروسيُّ لافروف إنَّ أمريكا ضغطتْ على السعودية، فإنَّ في هذا الإقرارِ شهادةً على أنَّ الصمودَ السعوديَّ باتَ يُقاسُ بميزانِ الأمم. فالمملكةُ لم تَرضخْ لابتزازِ القوة، ولم تَخفْ من عواقبِ الخروجِ عن الخطِّ الأمريكيّ، لأنها تُدركُ أنَّ من يملكُ المبدأَ لا يُرهبهُ التهديد. وما أعظمَها من لحظةٍ حين تنكسرُ سياسةُ الإملاء أمامَ كبرياءِ الموقف! حين يرى العالمُ دولةً عربيةً مسلمةً ترفضُ أن تُزيّفَ ضميرَها ولو باسمِ «السلام». وفي زمنٍ باع فيه كثيرونَ مواقفَهم تحت شعاراتٍ براقةٍ، تُطلُّ المملكةُ لتُذكّرَ الجميعَ أنَّ القيمَ لا تُقاسُ بحساباتِ الربحِ والخسارة، وأنَّ للأوطانِ روحًا تُهانُ إذا سكتتْ عن الظلم. إنَّ الثباتَ الذي أظهرتهُ القيادةُ السعودية ليس تصلّبًا في الرأي، بل إيمانٌ بأنَّ من يتنازلُ عن القدس اليوم، سيتنازلُ غدًا عن شرفِ الأمةِ كلِّها. إنه ثباتُ من يُدركُ أنَّ الأرضَ التي أنزلَ اللهُ فيها كتابَه، لا تُدافَعُ عنها بالبياناتِ فقط، بل بالمواقفِ التي تخلُدُ في الوجدانِ وتُلهِمُ الأجيال. إنَّ في هذا الموقف السعوديِّ رسالةً تُتلى على مسامعِ العالم: أنَّ من أرضِ الحرمينِ الشريفين لا يصدرُ إلا ما يُشبهُ صفاءَ الحرمين، وأنَّ الدولةَ التي ترعى قبلةَ المسلمين لا يمكنُ أن تفرّطَ في قبلتِهم الأولى. وإنَّ في قولِ وليّ العهد - ضِمنًا - «لا اعترافَ قبلَ قيامِ الدولة الفلسطينية» قسمًا صامتًا باسمِ الأمةِ كلِّها، بأنَّ العقيدةَ فوقَ السياسة، والحقَّ فوقَ المساومة، والكرامةَ فوقَ كلِّ ضغط. وما أعجبَ أن يُدركَ الأحرارُ في كلِّ مكانٍ أنَّ الموقفَ السعوديَّ لم يكن دفاعًا عن فلسطينَ وحدها، بل دفاعًا عن معنى العروبةِ والإسلامِ في زمنٍ يُرادُ فيه طمسُ الهوية. إنَّه صرخةُ سيادةٍ في وجهِ الهيمنة، وإعلانُ كرامةٍ في زمنٍ تهاوتْ فيه كثيرٌ من الكياناتِ أمامَ المغرياتِ والمخاوف. وها هو التاريخُ يُسطِّرُ مجددًا أنَّ الرياضَ تبقى ميزانَ المروءةِ في الشرقِ الأوسط، فإذا اختلَّتْ الموازينُ عادَتْ إليها لتستقيم. ومن هناك، من مجلسِ القرارِ الذي يُحيطهُ الإيمانُ والحزم، خرجتْ كلمةٌ تعادلُ في وزنها جيوشًا، لأنَّها كلمةُ مبدأٍ لا تُشترى، وإرادةُ أمةٍ لا تُكسر. سلامٌ على الموقفِ حين يخرجُ من فمٍ لا يعرفُ الرياء، وسلامٌ على السعوديةِ حين تكونُ صوتَ العدلِ في زمنِ الضجيج، وسلامٌ على وليّ العهدِ الذي حملَ رايةَ الكرامةِ في زمنٍ أرهقَتْهُ المساومات. ما أشرفَ أن تبقى المملكةُ على هذا الثغر، تحرسُ الكلمةَ كما يُحرسُ السيف، وتُبقي رايةَ فلسطينَ في مكانها العالي، لا تنزلُ حتى يُرفعَ الأذانُ من قدسٍ حُرٍّ طليقٍ، يسمعُ صداهُ من الرياضِ إلى السماء. فلتعلمِ الدنيا كلُّها: أنَّ من يتخذُ من مكةَ قبلةً، لا يمكنُ أن يجعلَ القدسَ سلعةً. وأنَّ من يحملُ رايةَ «لا إله إلا الله» لا يمكنُ أن يطأطئَ رأسهُ لغيرِ الله. فطوبى للموقفِ إذا خرجَ من صدرٍ يؤمنُ بأنَّ الثباتَ على الحقِّ عبادةٌ، وأنَّ الصبرَ على المبادئِ بطولةٌ، وأنَّ كرامةَ الأمةِ لا تُقاسُ بكمِّ الصفقات، بل بوزنِ المواقف.