بداية أستفتح بالترحم على سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الذي قضى حياته في خدمة العلم الشرعي ونشر الفتوى وتوجيه الناس إلى الخير، وترك إرثاً علمياً يشهد له بإذن الله يوم الوقوف بين يدي يديه. ورحيله يذكّرنا بحقيقة لا تغيب: أن العلماء، مهما علت مراتبهم ومهما اتسعت معارفهم، بشر يرحلون، بينما المرجعية الحقيقية في الدين تبقى خالدة ما دام القرآن محفوظًا، والسنة مبينة له، والإجماع صائنًا لوحدة الأمة، والقياس أداة لتجديد النظر والاجتهاد. حين نتأمل في سؤال المرجعية الدينية ندرك أننا أمام قصة طويلة بدأت بنصوص واضحة من السماء، ثم تشعبت في أذهان الناس حتى صار بعضهم يقدس الأشخاص والطوائف، ويجعل من أقوال البشر مرجعية تفوق كلام الله ورسوله أو توازيهما. ولعلّ أجمل ما في هذه القصة أنها تكشف لنا كيف انتقل الناس من الوضوح إلى الالتباس، ومن النص إلى الهوى، ومن الأصل إلى الفروع. لقد كان القرآن أول ما نزل، وكان كافيًا أن يكون هو المرجع الأعلى الذي لا يعلوه شيء. فالكتاب محفوظ بحفظ الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الخطاب المباشر للإنسانية كلها. وكان الصحابة يدركون أنه لا يُمكن تجاوز كلام الله إلى رأي بشر، فالنص الإلهي هو الأصل والفيصل. لكن لأن القرآن في كثير من المواضع وضع القواعد العامة ولم يفصّل كل صغيرة وكبيرة، فقد كان لا بد أن تأتي السنة النبوية لتكون البيان العملي والشرح التفصيلي. النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يضيف إلى القرآن من عنده، وإنما يوضح مراد الله لعباده، ويطبق تعاليم الوحي في حياته اليومية. لذلك "كل ما حكم به رسول الله فهو مما فهمه من كتاب الله أو ما نزل به الوحي موضحاً له، فهو لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم". و بهذا المعنى صارت السنة امتدادًا للقرآن، تعكس نوره على تفاصيل العبادات والمعاملات، وتوضح للناس ما أجمل في الكتاب. فإذا أمر القرآن بإقامة الصلاة، جاءت السنة لتبين مواقيتها وكيفياتها وأركانها. وإذا نهى عن الظلم، جاءت السنة لتشرح صوره وحدوده وضوابطه. هكذا ارتسمت المرجعية الأولى: كتاب الله ثم سنة رسوله. لكن مع مرور الزمن واتساع رقعة الأمة وتباعد الأمصار، بدأت الاختلافات تظهر، وكان لا بد من ضابط يمنع التشتت والتفرق. وهنا ظهر الإجماع باعتباره وسيلة لصيانة وحدة الأمة. لم يكن الإجماع شيئاً منفصلاً عن القرآن والسنة، بل كان ثمرة لفهم العلماء لهما، واتفاقهم على حكم بعد اجتهاد ونظر. فالأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن سبيل المؤمنين حجة معتبرة، لأن اجتماع أهل العلم في عصر ما إنما هو انعكاس لهدى الوحي. وهكذا صار الإجماع سياجاً يحمي النصوص من التلاعب الفردي، ويمنع الانحرافات التي قد تمزق الجماعة. ومع تطور الحياة وظهور قضايا جديدة لم يرد فيها نص صريح، وجد العلماء أنفسهم بحاجة إلى أداة عقلية منضبطة تعينهم على تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة. فجاء القياس ليكون حلقة الوصل بين النصوص الثابتة والواقع المتغير. وهو في جوهره ليس بدعة فكرية ولا تعاليًا على النصوص، بل محاولة لإلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما، كما كان في تحريم الخمر معللاً بعلة الإسكار، فقد كان القياس عليه أن كل مسكر جديد يُلحق به. وبذلك ظل القياس آلية تحافظ على مرونة الشريعة وقدرتها على الاستمرار عبر العصور. هكذا كانت القاعدة واضحة ومتسلسلة: القرآن أصل، والسنة بيان، والإجماع صمام أمان، والقياس وسيلة اجتهاد. فلماذا إذن ترك الناس هذه الأصول وذهبوا إلى الفروع؟ الإجابة نجدها في التاريخ وفي النفس البشرية. بعد عصر الخلافة الراشدة، ومع ظهور الفرق والمذاهب، بدأ الولاء يتحول من النص إلى الانتماء. صار بعض المسلمين يعرفون أنفسهم بكونهم أتباعًا لفلان أو لمدرسة معينة، حتى لو خالفت أقوالها النصوص الصريحة. ومع مرور الوقت ترسخ هذا الانتماء، وصار قول الإمام أو الشيخ عند أتباعه لا يُرد ولا يُناقش. وهكذا انزاحت المرجعية من النص إلى الشخص. ويحذر البعض من هذا الميل، ويرى أن مقصد الشريعة الإسلامية وُضعت لكي تُحرر الإنسان من سيطرة رغباته وأهوائه الشخصية، وتجعله عبدًا لله تعالى طوعًا واختيارًا، لا عبدًا لهواه، ولا عبداً لشيخ أو جماعة. فالعالم الشرعي أو الفقيه قد يخطئ ويصيب، ولا عصمة لأحد بعد رسول الله، ومن جعل أقوال الناس في رتبة النصوص فقد خرج عن الجادة والصواب. لكن لماذا يحدث هذا الانزياح أصلاً؟ لأن النصوص تحتاج إلى فهم وتفكر وبذل جهد، بينما أقوال الأشخاص جاهزة وسهلة. فالنفس البشرية تميل إلى الراحة الفكرية، فترى في التبعية الكاملة للشيخ أو المذهب خلاصًا من عناء البحث. كما أن الناس بطبعهم يحبون التعلق بنموذج بشري يمنحهم شعورًا بالأمان، فيجدون في تقديس المرجع أو الإمام بديلًا عن مواجهة النصوص بعقولهم. هكذا يتحول الدين من تحرير للعقل إلى وصاية عليه. غير أن الإصلاح ممكن إذا استعدنا ترتيب المرجعيات كما وضعها علماء الأصول. فالقرآن لا يُقدم عليه قول أحد، والسنة الصحيحة تفسر الكتاب، والإجماع إذا تحقق يحمي وحدة الأمة، والقياس يضمن استمرارية الشريعة. أما العلماء فمكانتهم عظيمة، لكنهم يظلون بشراً يخطئون ويصيبون. وظيفتهم أن يعينوا الأمة على فهم الوحي، لا أن يكونوا بديلاً عنه أو مساويًا له. حين يدرك المسلم هذه الحقيقة، تضيق مساحة الخلاف وتبقى في حدودها الطبيعية، ولا تتحول إلى معارك مدمرة. سيختلف العلماء كما اختلف الأوائل، لكنهم جميعًا يرجعون إلى أصل واحد. وبهذا نحاصر التطرف، ونضعف العصبية للأشخاص والطوائف، ونجعل النص فوق كل اعتبار. فمن نصب شخصًا كائنًا من كان فوالى وعادى على موافقته ومعارضته كان من أهل التفرق والاختلاف. وهي كلمة تختصر مأساة قرون طويلة من الانقسام. القصة إذن رحلة بدأت من الوحي، ثم عبرت عقول البشر. في الأصل كانت المرجعية واضحة: كتاب الله وسنة رسوله، ثم إجماع الأمة وقياسها. لكن الناس، بحكم التاريخ والهوى وحب السهولة، تركوا الأصل واتبعوا الفروع. واليوم إذا أردنا أن نصلح حالنا ونخفف من مظاهر التشدد والشقاق، فليس أمامنا سوى العودة إلى ترتيب البوصلة من جديد: الوحي أولًا، ثم ما تفرع عنه من أدوات اجتهاد منضبطة. حينها فقط نستعيد صفاء الدين ووحدة الأمة، ونضع الإنسان في مكانه الطبيعي: مجتهدًا خادمًا للنص، لا مقدساً يُطاع بلا برهان.