تأكيد مصري وأممي على ضرورة توفير الظروف الآمنة لدخول المساعدات الإنسانية من معبر رفح إلى غزة    الهلال يعود في الوقت القاتل كالعادة ويقهر النصر «في عقر داره»    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم المناطق من يوم غدٍ السبت حتى الأربعاء المقبل    ضبط مقيم ووافد بتأشيرة زيارة لترويجهما حملات حج وهمية ومضللة بتوفير سكن ونقل للحجاج    الأمن العام يطلق خدمة الإبلاغ عن عمليات الاحتيال المالي على البطاقات المصرفية (مدى) عبر منصة "أبشر"    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    تدشين أول مهرجان "للماعز الدهم" في المملكة بمنطقة عسير    القيادة تهنئ الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية في تشاد    «هيئة النقل» تعلن رفع مستوى الجاهزية لخدمات نقل الحجاج بالحافلات    السالم يلتقي رواد صناعة إعادة التدوير في العالم    «تعليم جدة» يتوج الطلبة الفائزين والفائزات في مسابقة المهارات الثقافية    مفتي المملكة يشيد بالجهود العلمية داخل الحرمين الشريفين    استكمال جرعات التطعيمات لرفع مناعة الحجاج ضد الأمراض المعدية.    المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    تشكيل الهلال المتوقع أمام النصر    9 جوائز خاصة لطلاب المملكة ب"آيسف"    كاسترو وجيسوس.. مواجهة بالرقم "13"    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    تراحم الباحة " تنظم مبادة حياة بمناسبة اليوم العالمي للأسرة    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    حرس الحدود يحبط تهريب 360 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    استشاري ل«عكاظ»: قمة «الهلال والنصر» صراع جماهيري يتجدد في الديربي    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    «الأقنعة السوداء»    السعودية والأمريكية    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    فتياتنا من ذهب    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    حراك شامل    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    كلنا مستهدفون    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن لسان ميزان التكفير بين الافراط والتفريط . هل ينبغي أن نكون أكثر سلفية من السلف؟
نشر في الحياة يوم 01 - 05 - 2000

مفهوم الكفر والبدعة، أكثر المفاهيم الدينية التباسا وغموضا، في فقه من بعد عهد الخلفاء الراشدين، وأكثرها اضطرابا عند التطبيق، وأكثرها تأويلا وتجييرا، لغايات حميدة أو ذميمة، أساء استخدامه قوم كثير، فجر ذلك إلي شل حيوية الدين، باسم الدفاع عنه، وكان سوء استخدامه، من أسباب قابلية الأمة، لقيم التشرذم والخمول، ونحن اليوم مرشحون لمزيدمن التشرذم، بسبب الإفراط في فهم هذا المفهوم أو تطبيقه، وكل إفراط يجر إلي التفريط.
وفي القضية بضعة أسئلة، تقتضي محاولة الإجابة: فما معيار تكفير الآراء والتيارات؟ وماضوابط تكفير الإشخاص والجماعات؟ وماآثار المجازفة في التكفير إفراطا وتفريطا؟ وهل تغني المواعظ وإصدار الأحكام؟ أم أنه لابدمن معالجة المأزق الحضاري، الذي يفرز الاغتراب والاستلاب، مع معالجة الآثار؟، أربعة أسئلة سيحاول الكاتب مقاربة أجوبتها، في حدود الإمكان والمجال.
بعض الناس يدافع عن الردة والانحراف، متحدثا عن حسن نيات أولئك المثقفين والمفكرين، الذين يروجون للكفر، وهم يشعرون أو لا يشعرون، ويمتدح روحهم العلمية في البحث، وجدهم في طلب الحقيقة، ويعتبر التكفير إقصاءاً وإرهابا فكريا، أونيلاً من حقوق الإنسان.
وهذا الاتجاه مهما كانت ذرائعه، يفضي إلى ترويج النموذج العلماني اللائكي للحضارة الغربية، و إدماج النموذج الإسلامي في عالميتها، لكي يكون طرفا تابعا للنموذج المركزي الغربي، بعضهم يريد أسلمة العلمانية، فإذا به يعلمن الإسلام، بالتأويل تارة، وبالتعطيل تارة أخرى.
ولعل من المفيد التذكير" بأن لكل ملة وقومية إطاراً، من خرج عن نظامه، يعد خارج المنظومة، وهذا أمر مقرر في العقائد والأديان، يعبر عنه بالكفر والإلحاد، وهو مقرر في القانون الدولتي، يعبر عنه بالخيانة العظمى، أو الحرابة والبغي. والإسلام جنسية من لم يؤمن بتكاليفها" فكيف يريد أن يعد من رعاياها؟ .
والإنسان الذي لا يؤمن بالإسلام دينا شاملاً لجميع نواحي الحياة، هو بين أمرين: إما أنه يجهل هذا الدين، وإما أنه يريد تأويل الدين، ليصبح كائنا اسفنجيا، يصيره على هواه، وهذا أمر لا يمكن المسلمين قبوله، فلا تشريف من دون تكليف.
2- مصطلح الردة يحتاج إلى تحديد.
التعريف المتداول للردة، هو أن ينكر المتهم شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، أو أن ينكر شيئاً من قطعيات الدين وقطعيات الدين هي ما ثبت في الشريعة، ثبوتا قطعي الورود والدلالة، فلم يختلف عليه الصحابة.
لكن هذا وذاك لا يكفي، لضبط قاعدة التكفير، ولا بد من معيار أوضح وأصرح، كي نتجنب الإفراط والتفريط.
ولكي لا يعيد الناس إنتاج البلبلة القديمة، عند قوم غرقوا في الفلسفات الإلحادية، وحاولوا التوفيق بين "ميتافيزيقا أرسطو، المبنية على الشرك، و]عقيدة الإسلام[ المبنية على التوحيد" في أصول الحوار د.طه عبدالرحمن56، فانتهوا إلى التلفيق، وآل بهم التأويل إلى تعطيل الشريعة.
أو عند آخرين رفضوا الثقافة الأجنبية جملة وتفصيلا، فبدعوا وكفروا، وخونوا وفسقوا، ورفضوا المنطق والفلسفة، لأن الإلحاد والشرك مازجاهما، ورفضوا الكيمياء لأن السحر داخلها، من دون فرز بين المنهج والمضمون الموضوع، ومن دون فرز ما يصادم الشريعة، عن ما لا يصادمها، وما هومن عالم الغيب من الفلسفة الأجنبية، وماهو من عالم الشهادة.
لماذا كان ذاك الصدام؟ لأن مقياس المعلوم من الدين بالضرورة، لم يفرق بين الوحي والرأي. ولأن مقياس تأويل القطعيات، لم يفرق بين الأصول والفروع، فأتيح لكل اتجاه، أن يستنبط من شروط الإسلام ما يراه.
وينبغي وضع النقاط على الحروف، من أجل جلاء المعيار الشرعي، الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، لأن كثيرا منا، يخلط بين مستويين من الشريعة: الرأي البشري، وهو اجتها دمعرض للخطأ والصواب، وهو مجال للصواب المطلق والنسبي، ولذلك جاز فيه الخلاف، ولم يجب الإلزام به. والوحي، أو التبليغ النبوي، وهما حق مطلق، لا يجوز فيه الخلاف، ولذلك يجب الالتزام به. هذا هو الحكم الثابت وذاك هو الرأي المتغير.
ومن هنا تبدو أهمية ضبط الأمور، التي يكفر بها المسلم، بمفاهيم الكتاب والسنة، ثم تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جيل الراشدين، ومن المفاهيم والتطبيق، يستمد المنهج. فذلك هو فيصل التفرقة، بين أصول الدين، التي يكفر المسلم إذا أنكرها، ولو كان متأولا، والأحكام القطعية، التي لا يكفر إذا أنكرها متأولا، ولكن يخطأ فيها، أو يضلل أو يبدع.
وذلك هو العاصم من القواصم، التي تهدد السلام الاجتماعي، وتزرع البغضاء والأحقاد، وتسيل الدماء، وتثير الرعب والخوف، بسبب اجتهادات حاول أصحابها، أن يكونوا سلفيين أكثر من السلف.
ذلك هو الميزان الذي أمرنا بالاحتكام إليه، كما في الحديث الصريح الصحيح، الذي أخرجه أبو داوود وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" علينا إذن - بهذا الحقل النموذجي للمرجعية، وسنجد فيه صورة واضحة لا تشويش فيها ولا اضطراب، تبين الحد الفاصل بين الكفر والأيمان.
ويبدو تعامل الخليفة الراشد، علي بن أبي طالب مع الخوارج، نموذجاً واضحاً، لا ليل فيه ولا ضباب، لا سيما أنه خليفة راشدمجتهد، يدرك علاقة القاعدة بالنموذج، وعلاقة النص بالتطبيق.
ولعل من المفيد - قبل استنباط التعريف من موقفه - أن نتذكر مااشتمل عليه مذهب الخوارج من مخالفات واضحات، لأمور قطعية الثبوت والدلالة:
أولها - أنهم اعتبروا مرتكبي كبائر الذنوب كفاراً، مخلدين في جهنم، إن لم يتوبوا قبل الممات، وهذا الاعتقاد مخالف لنصوص الكتاب والسنة صالح البليهي: عقيدة المسلمين: 2/399.
ثانيها - أنهم يردون الأحاديث الورادة، عن طريق عثمان وعلي رضي الله عنهما، ومن شايعهما صابر طعيمة: الفرق: 147.
ثالثها - أنهم كفروا الصحابة المشهود لهم بالجنة، كعثمان وعلي، وطلحة والزبير، وكفرواأصحاب الجمل، والحكمين ومن رضي بحكمهما، وكثيراً من الصحابة البليهي: 2/401.
رابعها - أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم، إلا من خرج معهم البليهي2/401 واستحلال دم المسلم محرم بالكتاب والسنة والإجماع. وفي ذلك إخلال كبير خطير بالقطعيات.
وعلى رغم كل هذه الانحرافات الفكرية والسلوكية، لم يكفرهم الخليفة، ولا جمهور الصحابة، على رغم أن تكفيرهم، هو ظاهر الأمر عند عدد آخر، من الفقهاء والعلماء، فقد وردت أحاديث صحيحة في ذمهم، منها أنهم "يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية" وكان يمكن لعلي أن يستثمر الأحاديث التي توحي بكفرهم، لأن مروق الإنسان من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ظاهره الخروج من الدين.
ولكن عليا كان أوعى وأدرى بأحكام التكفير، وكان على درجة فريدة من إنصاف الأعداء والخصوم، فهذا الرجل الذي عاقب الذين غلوا في حبه حتى ألهوه، لم يكفر الذين كفروه وقاتلوه، وإنما قاتلهم لأنهم بغاة محاربون، ولم يقاتلهم على اعتبار أنهم كفار، ولما سئل أكفارٌ هم؟ قال: "من الكفر فروا"، لما سئل أمنافقون هم؟ قال: "المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا" ولما قيل له: ]إذن[ من هم قال: "إخواننا بغوا علينا".
ولذلك "قال الإمام مالك كماذكر البليهي: 2/401 إنهم يقتلون على إفسادهم ]أي لدفع بغيهم وحرابتهم[، لا على كفرهم"أي لاعلى أنهم كفار.
وبدعة الخوارج تعتبر أشد أنواع الابتداع في الإسلام، كما قال أحمد بن حنبل، رحمنا الله وإياه: "لا أعلم قوما ]أي من أهل الابتداع[ شرا من الخوارج".
وإنما اعتبر الخوارج غيركفار" لأن بدعهم بدع تأويل، وليست بدع إنكار، لأن تأويل القطعيات مالم تكن من أصول الدين، كالصلاة والحج غير مكفر، أما إنكارها من دون تأويل فهو مكفر.
3 أماأقوال التابعين ومواقفهم، فضلا عن من تلاهم" فليست مرجعية معيارية لمفاهيم الإسلام وتطبيقاته، كما قال ابن القيم، رحمنا الله وإياه:
العلم قال الله قال رسوله
قال الصحابة، هم ألوا العرفان
ما العلم نصبك للخلاف ]موازنا[
بين الرسول وبين قول فلان
فإذا وجدنا قولاً أو موقفا لعالم، يؤيد ما سلكه الراشدون اعتبرناه دليلا على أن هذا العالم أو ذلك الاتجاه" سلفي في هذه القضية أو تلك، لأنه تابع السابقين من الصحابة بإحسان، لأن الصحابة الراشديين هم وحدهم معيار السلفية الراشدية، كقول الإمام ابن تيمية في الرسائل "لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة".
"والخوارج المارقون... لم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم ]أي عدوهم[ مسلمين،..". "ولم يقاتلهم ]علي[ حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار".
"وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا، مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين، الذين اشتبه عليهم الحق، في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى أيضاً" نقلاً عن القرضاوي: ظاهرة الغلو في التكفير.
بل إن ابن تيمية اعترف بما لأمثالهم من فضل" فقال في الفتاوى: 13/96: "وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين، من الرافضة والجهمية" إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذالك" كما نقل ذلك الدكتور أحمد الحليبي، في أصول الحكم على المبتدعة" عند ابن تيمية.
4- ولعل المحدِّثين أبرزمن تابع الصحابة السابقين بإحسان، فطبقوا ميزان الاعتدال، في التعامل مع أهل البدع، فقد رووا أحاديث كثيرة، عن عشرات من المبتدعين، ولم يدر بأذهانهم أي شك في عدالتهم فضلا عن إسلامهم، ولو حاك في نفوسهم شك لسكتوا، ولو كان في نفوسهم أدنى هاجس، لأخذوا بالأحوط، وهو ترك الرواية عنهم. بل اعتبروا البدعة مسألة اجتهاد في رأي، لا تقدح في العدالة، ولو رأوها فسقا في الدين - كما فسق بها آخرون - لكرموا حديث رسول الله، عن أن يكون في سند روايته" أحد من الفساق.
فقد روى البخاري عن عباد بن يعقوب الرواجني، وهو كما قال ابن حجر "رافضي مشهور... قال ابن حبان ]عنه[: كان رافضيا داعية، وقال صالح بن محمد: كان يشتم عثمان رضي الله عنه" مقدمة فتح الباري. الفصل التاسع.
وروى البخاري أيضاً عن عمران بن حطان، أحد زعماء الخوارج وخطبائهم، وشعرائهم المشهورين.وكان عمران كما قال ابن حجر "داعية إلى مذهبه، ]أي مذهب الخوارج[، وهو الذي رثى عبدالرحمن بن ملجم، قاتل علي عليه السلام، بتلك الأبيات ]الشنيعة[ السائرة" فتح الباري: 1/186.
وروى البخاري ومسلم، عن عبدالحميد بن عبدالرحمن الحماني، وكان من دعاة المرجئة. وهكذا روى المحدثون عن أهل البدع، بل عن دعاتهم وكبارهم، ومن يرد التأكد فسيجد في مقدمة فتح الباري" عشرات الأسماء، من أهل البدع ودعاتها" وأنواع بدعهم" من من روى عنهم البخاري، صاحب أصح كتاب بعد القرآن، هذا الكتاب الذي تلقته الأمة بالقبول.
هذه المواقف والآراء وأمثالها، بلورة للمنهج السلفي في التكفير، لأنها تتسق مع القاعدة، فإن وجدنا أو فهمنا" تفصيلات أو تطبيقات أو مواقف، خلاف هذه القاعدة، لم نحتجج بها، ولم نسلم لها، لأنها اجتهاد من قبيل الرأي، والرأي محتاج إلى دليل، فكيف يعتبر بنفسه دليلا؟
فهل من ميزان لنا اليوم الا هذا الميزان؟ الذي تعتدل فيه كفتا التكفير، عن الإفراط والتفريط، الذي ينجي من اقتناص الشواهد، وابتسار النصوص، وتجيير المواقف.
5- بذلك تنضبط الاستشهادات، بمحور محكمات الشريعة، وببوصلة تطبيقات الراشدين. لأن بعض الناس، يعيدون إنتاج مواقف بعض القدامى والحداثى، دون أن يستحضروا أجواءها، ولايكادون يدركون مدى تأثيرات التضاريس الاجتماعية، ولا أثرالظلال النفسية، في بلورة المواقف الفكرية، ومافي هذا وتلك، من منافسات وخصومات، بين الأفراد والجماعات والاتجاهات، ولامدى تأثرها بأجواء الشقاق والصراع، والمحن والنكبات، فضلاً عن أحوال العمران والاقتصاد، التي لا يكاد المؤرخون القدامى يهتمون بأثرها، عند دراسة المذاهب والأحداث، في الزمن القديم.
وهنا وهناك معاصرون كثير، يقرأون الأفكار والمواقف، معزولة عن السياق اللغوي أو الاجتماعي، فيقعون في مزالق توليد نص جديد، يقتنص من نص قديم، عبر التأويل والتحريف، أوالاستنساخ والمسخ، أو التجيير والتوظيف.
والعودة الى فقه الكتاب والسنة، ثم تطبيق جيل الراشدين، تعني تصحيح فكر الأمة، وإزالة تراكمات من الخلافات بين القلوب، وتنبيه الذين يستثمرون بعض أقوال بعض الأئمة في الإفراط أو التفريط، إلى أن وجودالماء يبطل التيمم، وتنبيه الذين غالوا في التكفير، لكي يختاروا طريقة المحدثين في الاعتدال، فيكونون من أهل السنة، أو طريقة الخوارج في التطرف، فيكونون من أهل البدع.
6- وموقف علي وجمهور الصحابة" من انحراف الخوارج الفكري" يضرب نموذجا إسلاميا فذا" في التسامح مع المخالفين، وبذلك يتمظهر الاسلام أكثر إنصافا" وإقرارا للحقوق الإنسانية، من دعاة الحرية العلمانية، الذين قال أحد زعمائهم الفرنسيين سان جوست "لا حرية لأعداء الحرية"، أي لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية.
لكن الحكومة في الإسلام تعترف بالحرية لا من باب التسامح أو المنح، بل من باب الاعتراف بالحقوق المشروعة، المتسامح والمانح متفضل، والمعترف بالحق منصف، لافضل له ولا معروف، لأن الكرامة والحرية منحة من الله. حتى أعداء الحرية، الذين يؤمنون بالعنف، ويبيحون قتل الآخر المسالم واستئصاله" يسر الإسلام لهم الحرية، ولم يعتبر أي عمل أو قول، خروجا على السلطة، مالم يهتكوا النظام العام للدولة، بحمل السلاح على الناس.
دستور الدولة الإسلامية - كما نمذجه علي بن أبي طالب - يعترف بكل فئة موجودة في الساحة، حتى الذين لا يعترفون به يعترف بهم، حتى الذين يريدون استئصاله وإسقاطه، مثل دعاة الاستئصال في الفكر الإسلامي كقدامى الخوارج والمعتزلة، والمتأثرين بردود أفعالهم، وكالديانات الاخرى، التي لا تعترف بالإسلام.
وهذا يدل أيضا على سعة أفق الإسلام وسماحته، تجاه أهل البدع، وتجاه الأفكار والآراء، وتجاه النقد بالكلمة الحرة. وأنه لا يجيز النيل من أجسادهم، ولا أعراضهم ولاأموالهم، ولايجيز التضييق عليهم، أوحبسهم حتى يتوبوا، بل ولا يجيز حرمانهم من حقوقهم المدنية، ولاسيما الحقوق الوظيفية والمالية، فقد أعلن علي للخوارج، وهو يخطب على المنبر: أن لهم حقا في بيت المال، لن يمنعهم إياه، وهم يقاطعون الخطبة بتكفيره!.
والفقه القانوني الإسلامي/ الأموي والعباسي الذي أجاز قتل دعاة البدع وبرره ونظر له، إنما هو اجتهادات لم تستند إلى نصوص صريحة صحيحة قطعية، من الكتاب والسنة، ولا من تطبيقات جيل الراشدين، وإنما هو تطبيقات وآراء قمعية، تركت صريح الكتاب والسنة، ولجأت إلى لي قواعد المصالح المرسلة، وسد الذرائع.
وقاعدة المصالح المرسلة، قد تعالج وضعا شاذا، في ظروف مختلة، لكنها من قبيل الاستثناء والرأي، وليست لها صلابة القواعد المستمدة من الوحي، في الفقه القانوني في الإسلام.
وذكر ابن تيمية والشاطبي، أن المصالح المرسلة" مقيدة بمقاصد الشريعة، أي أنه لا يجوز التفريع على غير أصل. وكل شيء اعتبرته العقول مصلحة أو عدلا، وليس له أصل صريح صحيح في الكتاب والسنة، فهو مفسدة وظلم.
ومن أجل ذلك لا بد من أن يكون فكرنا منسجما، إما أن نتبع فقه العصر الأموي والعباسي، في تجريم البدعة وقمعها، وقتل دعاتها، وإما أن نتبع سنن الخلفاء الراشدين، في مسألة حرية الرأي والتعبير، أما قبول فكرتين متعارضتين، واعتبار كل منهما سنة" فتلك بلبلة فكرية.
قاعدة حرية التفكير والتعبير - إذن - من القواعد الصلبة الأساسية، في الدستور الأساسي للدولة الإسلامية.
وتأتي صلابتها وقوتها، من تناسقها مع آيات الحرية المسؤولة، كقوله تعالى "لا إكراه في الدين"، وآيات التغيير السلمي، كقوله تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".
ويأتي تطبيق علي رضي الله عنه، كالشمس قوة وإضاءة، للنص النظري، للاعتبارات الآتية:
1- أنه ثاني الأربعة الكبار من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس، الذين برزوا في الفقه العام والقانوني.
2- أنه حاكم الدولة، الذي يدرك العلاقة بين النص والتطبيق.
3- أنه أطول الخلفاء الراشدين خبرة عملية، فقد عاش معهم تحت ظلال الوحي، وتطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كان مستشاراً كبيراً للخلفاء الثلاثة من قبله.
4- أنه فعل ذلك، وهو في حال الصراع، التي تختلط فيها الأشياء، وتجر الناس إلى الحدة والشدة، ويصعب على الناس العاديين أن يتجردوا من الذاتية"حين يتحرون الموضوعية، وكان بإمكانه أن يستل سيف التعزيز، وأن يمتطي مطية المصالح المرسلة، وأن يفعل مايقول بعض الفقهاء العباسيين: يجوز قتل ثلثي الناس لاستصلاح الثلث الباقي!.
ولكنه يدرك أن النجاح والذكاء السياسي، لا ينبغي أن يتما على جثة الصدقية الأخلاقية، لأن الأشخاص يموتون، والمبادئ العادلة المستنيرة تحيا، لكي تحيا بهم الأمم، فكان هذا الموقف تجسيدا حيا، للديموقراطية الإسلامية.
* كاتب سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.