في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم الرقمي؛ لم تعد اللغة مجرد وسيلة تواصل، بل تحولت إلى ميدان تنافس سيادي، وساحة يُقاس فيها النفوذ الثقافي والمعرفي بمدى حضور اللغة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، لا في كتب النحو والصرف فقط، وإنَّما تطوير المُعجم العربي رقمياً ضمن تطبيقات الترجمة والذكاء الاصطناعي والمحتوى التعليمي. ومع هذا الإدراك، لم يكن غريبًا أن يتصدر مجمَّع الملك سلمان العالمي المشهد بمبادرات نوعية تهدف إلى تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة المحتوى العربي، لا بوصفه تراثًا يُصان فحسب، بل كموردٍ حضاريٍ يُستثمر فيه، ويأتي المؤتمر السنوي الرابع لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في الرياض تحت عنوان: "الصناعة المعجمية في العالم: التجارب، والجهود، والآفاق" مترجماً لآفاق الرؤية المُباركة في كل ضروب الحياة. *حين تتحدث الآلة بلغة الضاد* الذكاء الاصطناعي لا يعترف إلا بالبيانات، ولغتنا العربية رغم ثرائها، ظلَّت في الهامش الرقمي لسنوات، إما لنُدْرة المحتوى عالي الجودة، أو لغياب البنية التقنية القادرة على تمثيلها بدقة. وفي هذا السياق، يبرز مجمَّع الملك سلمان العالمي للغة العربية -بوصفه فاعلًا نوعيًا تجاوز منطق المبادرات الاستعراضية - إلى العمل الممنهج على ثلاثة محاور: *بناء قواعد بيانات لغوية عربية دقيقة ومتنوعة، تصلح لتغذية نماذج الذكاء الاصطناعي وتدريبها على فهم اللغة العربية فصيحها ولهجاتها. *إنتاج محتوى رقمي معرفي عربي يرقى لأن يكون منافسًا في الفضاء المعلوماتي العالمي. *تحفيز البحث العلمي التطبيقي في مجال المعالجة الطبيعية للغة (NLP)، بالتعاون مع الجامعات ومراكز التقنية. الرؤية في 2030: أن تكون العربية جزءًا من مستقبل التقنية؛ فالقضية ليست هنا مسألة لغوية محضة، بل خيار استراتيجي، فإذا لم تكن لغتك جزءًا من معادلة الذكاء الاصطناعي؛ فثقافتك خارج اللعبة. العالم اليوم لا ينتظر من العرب أن يُبدعوا في البلاغة، بل أن يُبرمجوا بها، وأن تكون للعربية بصمة داخل المساعدات الصوتية، ومحركات الترجمة، والنماذج التوليدية. هنا بالضبط؛ تتقاطع جهود مجمَّع الملك سلمان مع رؤية المملكة 2030 بأن تتحول اللغة إلى أصلٍ معرفي، ومورد اقتصادي، وأداة سيادة رقمية. *اللغة مشروع سيادي... لا وظيفة ثقافية* اللافت أن المجمَّع لا يتعامل مع اللغة كملف ثقافي ثانوي، بل كمشروع سيادي، وهو إدراك عميق لا تملكه كثير من الدول، ففي مبادراته نلمس فلسفة واضحة، وهي: توطين التقنية لا يكتمل إلا بتوطين اللغة داخلها، ومن هنا؛ تأتي مبادرات مثل: *تطوير نموذج لغوي عربي ضخم بأداء تنافسي في الفهم والتوليد والترجمة. *دعم المحتوى العربي في الذكاء الاصطناعي التوليدي، لا سيما في التعليم والإعلام والترجمة. *إطلاق منصات ذكية تفاعلية تعتمد اللغة العربية وتُسهم في تعزيز حضورها رقميًا. *الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا.. بل اختبارًا للهوية* قد يسأل البعض: ما أهمية كل ذلك؟! والإجابة ببساطة: في العصر الرقمي، من لا يملك لغته رقميًا؛ سيتحدث بلسان غيره. والنتيجة: فقدان تدريجي للهوية الثقافية، وتحول المجتمعات إلى مجرد مستخدمين سلبيين لأدوات لا تعكس واقعهم ولا تعبر عن لغتهم. ولذلك، فإن ما يقوم به مجمَّع الملك سلمان؛ لا يجب أن يُنظر إليه كجهد لغوي فحسب، بل كدفاع رقمي عن السيادة المعرفية، وضمان لمستقبل تبقى فيه العربية حية في فضاء تسيطر عليه الخوارزميات. *خاتمة: من الحرف إلى الخوارزمية* مجمَّع الملك سلمان لا يرمم جدار اللغة، بل يبني لها مستقبلًا رقميًا موازيًا، بل إنه انتقال نوعي من الدفاع عن اللغة إلى الهجوم بها في ميادين التقنية والذكاء الاصطناعي، وهذا التحول ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية، فإما أن نتحدث مع الآلة بلغتنا، أو أن تُعاد برمجة وعينا بلغة لا تُشبهنا.