في أيام معدودة، قدّمت المملكة العربية السعودية للعالم مشهدين إستراتيجيين متلاحقين، الأول اتفاقية دفاعية فاصلة مع باكستان، والثاني رئاستها مع فرنسا لمؤتمر أممي لتسوية القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين؛ ولم يكن هذا التتابع عابرًا، ولا صدفة، بل جاء انعكاسًا لرؤية سعودية متكاملة ترسم معادلة جديدة للشرق الأوسط، تمزج بين الردع والسلام، وتجمع بين القوة والشرعية في سياق واحد. جاءت الاتفاقية الدفاعية مع باكستان لتشكّل لحظة فارقة في تاريخ التحالفات الإسلامية؛ فهي أول اتفاقية ثنائية صريحة بصياغة غير مسبوقة في المنطقة، وأقرب إلى «المادة الخامسة» في «حلف الناتو»، وتعبير عن إرادة المملكة في بناء شبكة ردع إستراتيجية لا تقتصر على الشركاء التقليديين، بل تمتد إلى تحالفات عميقة مع دولة إسلامية كبرى تملك ثقلها العسكري والنووي، وبدا العالم وكأنه أمام ولادة مفهوم جديد في العلاقات الدولية، يحمل توقيع «الرياض» و«إسلام آباد» معًا، ويضع السعودية في قلب معادلة الردع الإقليمي؛ وبينما كان العالم يقرأ دلالات هذا التحالف الدفاعي ويحلل أبعاده، أطلت المملكة من على منصة الأممالمتحدة لتقول كلمتها في القضية التي لم تغب يومًا عن وجدانها، والتي ألقاها وزير الخارجية نيابة عن ولي العهد، وفيها تأكيد المملكة على أن حل الدولتين ليس خيارًا تفاوضيًا عابرًا، بل السبيل الوحيد إلى سلام عادل ودائم، وأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على غزة والضفة والقدس يقوّض الأمن الإقليمي والدولي معًا، وفي لهجة صريحة حمّلت الكلمة إسرائيل مسؤولية الانتهاكات المتكررة، ورفضت العدوان على الدول العربية والإسلامية، ودعت المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 عاصمتها القدسالشرقية، وكان صوت المملكة واضحا في إعادة توجيه بوصلة العالم نحو جوهر القضية الفلسطينية، والتأكيد على أنها قضية حق وعدل وكرامة، وترشّح عن هذه الجهود الكبيرة التي قادتها المملكة بيانٌ دولي رفيع، صيغ بلغة واضحة وجميلة، فيها زخم متزايد للاعتراف بدولة فلسطين من دول مؤثرة في المجتمع الدولي، وأن سياسات الضم والاستيطان والعدوان الإسرائيلي لم تعد مقبولة، وأنها تمثل خطًا أحمر للمجتمع الدولي. الموقف السعودي في السياق الفلسطيني ليس جديدًا ولا طارئًا؛ بل هو امتداد لخط طويل رسمه الملوك عبر العقود، منذ الوالد جلالة الملك عبدالعزيز ومشاركة المملكة بتوجيهه في مؤتمر لندن الخاص بفلسطين عام 1939، وإيفاده أبناءه للذود عن فلسطين في حرب 1948، مرورًا بالملك سعود الذي زار فلسطين في حياة والده، واستمر في دعم الأسر الفلسطينية ومنحها حياة كريمة، والملك فيصل الذي نقل القضية إلى الإطار الإسلامي الأشمل بعد حريق الأقصى عام 1969، والملك خالد الذي استمر في حشد الدعم لفلسطين، وعمل تجاه التسويات العادلة لها، والملك فهد الذي طرح مبادرة السلام عام 1981، وتحولت إلى «قمة فاس» العام التالي، والملك عبدالله الذي أنشأ صناديق دعم الانتفاضة والقدس، وأطلق من «بيروت» عام 2002 المبادرة العربية، وصولًا إلى الملك سلمان الذي سمّى قمة «الظهران» عام 2018 «قمة القدس»، معيدا مركزيتها إلى الصدارة؛ واليوم يواصل ولي العهد المسيرة، جامعًا بين معادلة الأمن ومعادلة السلام، ومؤكدًا أن الموقف السعودي ليس شعارًا بل سياسة ثابتة ومتجددة. أختم بأن الجمع بين الحدثين، الدفاعي والسياسي، كشف ويكشف عن صورة مسؤولة للمملكة العربية السعودية؛ لا نبحث عن حرب، ولا نسمح بالعدوان، ولا نساوم على الحقوق، ولا تستفزنا الشعارات، ومعادلتنا قوة تحمي وسياسة تبني، ورسالة تجمع بين الحق والواجب والسلام.