في صباح اليوم الوطني السعودي تبدو الشمس وكأنها تطفئ كل علامات الظلال في الصحراء؛ تشرق بخط اليد التي أرادها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أن ترسم حدوداً لوطن لا يُمحى من ذاكرة الرياح، فالوطن يوقظ الإنسان أولاً: قبيلة في المدى، خيمة، فراء، صوت الأذان، ريح الغبار على الرمال، كلها معانٍ تحمل بذرة التوحيد. في تلك الحظة تصبح الصحراء صفحة بيضاء للحلم، والأسماء - نجد، الحجاز، عسير، الشرقية - تكتب بخطٍّ واحد فوق الرمال، ورائحة البخور، نغمة القهوة، وحفيف العباءة، تنهض مع الصباح لتقول: هنا وطنٌ اختُرِع بعد طول انتظار. خطوات التحول: الخيمة تصبح دار، الدار تصبح حصناً، الحصن يصبح مدينة. اشتدّ البناء فتكسّى الأفق بالناطحات، ونُفضت الرمال، وتدفقت الشوارع بضوء الكهرباء، ظهرت الأضواء، وارتفع الصوت - لا صلاة فحسب، وإنما موسيقى المدنية، والعزف على الحجارة والأسفلت. والشباب يركضون نحو المستقبل لا انتظار لديهم لأحد، ولا مراجعة للتقليد بلا فائدة، فالكبار يتعلّمون أن العطاء لا يقف عند عمر، وأن الحكمة تُورث بالفعل لا بالكلام، ورؤى 2030 وأحلام نيوم والعلا لا تُعلَّق كلوحات في المعارض بقدر ما تأتي كخطوات على الأرض، تُقاس بالفعل يوماً بعد يوم كنبض قلب الوطن. وأنت أيها الذي ولدت خارج الحدود تكتشف أن وطنك يترشح في الدم، وأن الانتماء لا يُشترى بجواز بقدر ما يُكتسب برغبة، برؤية، بيدين تبنيان، نعم تراب السودان يجري في عروقي، لكن هواء السعودية يجعل صدري يتسع، لذا في هذا اليوم أتخيل الملك المؤسس وهو يتقدم على ظهر الخيول في صحراء لا أحد يراها إلا الريح؛ يتقدم ليعلن الإيمان بالتوحد، بالإيمان أن الأرض التي لا تحسّ بالكتابة تصبح وطنًا حين تُخطّ فيها خطوة، ليتحوّل الوطن لصيرورة حضارة وحكاية، فعندما تمشي في شوارع الرياض الآن ترى أنها ليست بلدة صغيرة انتصرت، إنها عرض سماء ممتد، وضوء في الليل، تهزّها الأضواء والوجوه، والضحك في الأسواق، وصدى المساجد وأقدام المصلين بعد صلاة العشاء، وحينها تدرك أن هذا البلد ليس رقماً في الجغرافيا ولكنه شعور يدخل الروح ليعانق الحواس. وللأمانة يوقظ فيني اليوم الوطني كل عام ولعًا بالانتماء لهذه الديار، ويجعلني أرى النهاية من البداية، ويُعلّمني أن القصة لم تُكتب كلها، وأن هناك صفحات بيضاء كثيرة تنتظرنا، فالصفحة التي كتبناها بالدم والنور ليست النهاية، وإنما منعرج في الطريق الممتد.