إن الأفراد ليسوا كلهم على درجة واحدة من حيث ثخانة الغلاف الذاتي الذي يحيط بعقولهم.. فمنهم من يكون غلافه ثخينا جدًا وهو الذي يمكن أن نطلق عليه اصطلاح (الفطير) ومنهم من يكون على النقيض.. ويمكن أن نطلق عليه اصطلاح (الناضج) وأكثر الناس هم الذين يتفاوتون من حيث ثخانة غلافهم الذاتي.. فما هي مواصفات هذا (الفطير)؟ الشخص (الفطير) أمره عجيب.. إنه معجب بنفسه إلى الدرجة القصوى.. وهو موقن بأن الناس كلهم معجبون به أيضًا.. وإذا استحسن شيئًا ظن أن الناس جميعًا لا بد أن يستحسنوه مثله.. وتراه يأتي بالنكتة التافهة.. ويكون أول الضاحكين عليها.. وحين يضحك الناس معه مجاملة يعتقد أن الناس ماتوا من الضحك.. وقد يؤدي ذلك به إلى أن يعيد النكتة على الناس مرة بعد مرة.. وإذا تحدث هذا (الفطير) في مجلس أخذ يرنو بنظره خلسة نحو الحاضرين ليرى تأثير كلامه فيهم.. أما إذا ألقى كلمة في حفل عام أو كتب مقالة في جريدة.. فإنه يظل يتباهى بما قال مدة طويلة ولا يكاد يلتقي بصديق له حتى يسأله عن الكلمة التي ألقاها وعن عبقريتها التي لا تضاهي، وقد يضطر الصديق إلى مجاملته فيقول له ما يريد أن يقال، وعند هذا ينبلج وجهه عن ابتسامة الفخر ثم يمضي في طريقه رافعًا راسه نحو الأعالي. وإذا كان هذا «الفطير» شابًا من طلاب الغرام ازدادت مشكلته تعويصًا.. فهو يحسب أن حسنه فاق حُسن يوسف الصديق (عليه السلام)، فإذا دخل مرقصًا شرقيًا تخيل أن الراقصات وقعن في حبائل غرامه أو هن على وشك أن يقعن فيها.. وهو عند انتهاء الحفلة ربما وقف في باب المرقص متوقعًا أن تدعوه إحدى الراقصات إلى بيتها لشدة ما تشعر به نحوه من لوعة الهيام. والواقع.. أن كل إنسان مهما كان ناضجًا لا يمكن أن يخلو من بعض «الفطارة» قليلًا أو كثيرًا. إن النضوج التام غير موجود في البشر.. كما لا توجد فيهم أية صفة أخرى كاملة.. ومن الجدير بالذكر أن (الفطارة) ذات نفع كبير لصاحبها لأنها تمنحه المنزلة الاجتماعية الرفيعة التي يطمح إليها ولو عن طريق الأوهام. فلولا (الفطارة) لأدرك الإنسان قدر نفسه وقيمة أعماله كما هي على حقيقتها.. وهذا أمر يصعب على الإنسان تحمله 00 أن الأوهام ضرورية للإنسان.. ولولاها لما أحب الإنسان الحياة. ومن قرأ كتابي «أسطورة الأدب الرفيع» ربما يجد موقفًا من الشعر موقف المعادي له.. وقد جرت بيني وبين كثير من الأدباء معارك أدبية طاحنة. برأيي أن من أسباب النكسة التي حلت بنا في حزيران عام 1967 ولعنا المفرط بالشعر.. إذ أننا أكثر الأمم ولعًا بالشعر وانهماكًا فيه.. إن لم نكن أكثرهم على الإطلاق وهذا عيب من عيوبنا الاجتماعية أو هو بالأحرى من مظاهر التناشز الاجتماعي فينا .. فنحن نريد أن نسير في مضمار الحضارة الحديثة، ولكننا في الوقت نفسه نصر على المحافظة على تراثنا الشعري الذي هو على طرفي نقيض مع نظم الحضارة ومقتضياتها.. ومن خصائص التفكير الشعري.. أن أصحابه إذا انتصروا في حرب نسبوا سبب انتصارهم إلى أنفسهم وما أبدوا في الحرب من بسالة وتضحية وأما إذا انكسروا عزوا هزيمتهم إلى سبب خارج عنهم كالاستعمار أو الخونة.. ولا يخفى أن هذا النوع من التفكير يجعل أصحابه بعيدين عن تفهم الواقع كما هو والاستفادة من دروسه. لقد تغيرت طبيعة الحرب في العصر الحديث تغيرًا أساسيًا.. إذ هي أصبحت تعتمد على العلم والتقنية أكثر من اعتمادها على الفخر والحماس.. إن رجلًا شجاعًا من طراز عنترة العبسي.. لم تبق له تلك الأهمية التي كانت له في الحروب القديمة.. فلقد حل محله الجندي المدرب الذي يحمل بيده أحدث الأسلحة النارية ومن ورائه المصانع والعلماء يجهزونه كل يوم بشيء جديد.. وكذلك حل محل الرجز «أو الهوية العشائرية» خطة يعمل على وضعها الخبراء العسكريون عدة سنوات وفق أحدث التطورات في فن السلاح والحرب، ولذلك أكرر أننا في هذه المرحلة المتأزمة من تاريخنا في أشد الحاجة إلى التوازن بين دافع الحماس ودافع الموضوعية في أنفسنا فليس من الخير أن يسيطر الحماس على تفكيرنا دوما كما أنه ليس من الخير أن تخلو قلوبنا من الحماس. 1974 * عالم اجتماع عراقي «1913 - 1995». إ