عندما أصدر الشاعر اللبناني ميشال سليمان ديوانه الأخير "عاصمة الأمل" قبل ثلاث سنوات أخذ عليه البعض انتحاله عنوان كتاب الشاعر الفرنسي بول اليوار "عاصمة الألم". لكنّ ردّ "شاعر الالتزام" حينذاك كان غاية في الوضوح: نحن ابناء الأمل والأرض هي عاصمتنا. ولعلّ الأمل الذي ظل الشاعر يتغنّى به طوال حياته هو الذي كان حافزه لا الى كتابة الشعر فحسب وإنما الى الحياة نفسها، في معناها المثالي والنبيل. الشاعر ميشال سليمان الذي رحل أمس عن سبعين عاماً كان واحداً من مؤسسي تيار الشعر الملتزم الذي غزا العواصم العربية وبعض المنابر وخصوصاً في مرحلة الستينات، مرحلة الصراع العربي الداخلي والصراع العربي - الإسرائيلي. غير أنّ الالتزام الذي نادى به ميشال سليمان بدا مختلفاً كلّ الاختلاف عن المدارس الواقعية والثورية التي أثقلت الحركة الشعرية العربية. فهو كان سليل التراث العربي والمدرسة الجمالية اللبنانية والشعر الإنساني العالمي. ولعلّ فرادته كمنت في جمعه بين الوعي الاجتماعي والوعي الجمالي فإذا بصنيعه الشعري يخاطب النخبة والجمهور معاً منفتحاً على معاناة الناس العاديين وهمومهم وعلى الأسئلة الشعرية الحديثة. وإن آثر ميشال سليمان أن ينضم الى الحركة الشعرية العربية الملتزمة منتمياً الى شعراء مجلّة "الآداب" فهو لم يكن غريباً عن ثورة الشعر الحديث التي أعلنتها مجلّة "شعر". فثقافته الأكاديمية الراقية سمحت له أن يعود الى عيون التراث العالمي شعراً ونقداً. وفيما كان شعراء مجلة "شعر" يترجمون الشعر الفرنسي والأميركي والإنكليزي راح ميشال سليمان مع شلّة من رفاقه يترجمون "عيون الشعر الإنساني" وروّاده هم الشعراء الثوريون من أمثال بابلو نيرودا، رافائيل ألبرتي، لوركا وناظم حكمت وسواهم. وعندما أصدر ميشال سليمان ديوانه الأول "رثاء الخيول الهرمة" في العام 1966 سرعان ما فاز بالجائزة الكبرى للشعر في لبنان، وهي جائزة كانت على نقيض من جائزة مجلة "شعر". لم يكن ميشال سليمان يشعر بأي حرج، هو الشاعر الملتزم، بأن يكون صديقاً لشعراء المدرسة الجمالية الكلاسيكية: أمين نخلة، محمد مهدي الجواهري، عمر أبو ريشة وسواهم ممن رافقهم وكتب عنهم سواء في مجلة "الفكر الجديد" أو في مجلّة "الطريق". ولم يكن محرجاً أيضاً أن يكون صديق بدر شاكر السيّاب وعبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف والشعراء العرب الشباب الذين حلّوا في بيروت السبعينات وبيروت الحرب الأهلية. وحين وقعت تلك الحرب الأليمة كان ميشال سليمان يشغل رئاسة اتحاد الكتّاب اللبنانيين 1974- 1977. واعتراضاً على الحرب وما نجم عنها من مآسٍ ودمار، "هجر" ميشال سليمان لاحقاً بيروت مؤثراً الإقامة في بلدته البترون خصوصاً بعدما نهب بيته ومكتبه. إلا أنّ الحرب التي رفضها زادته حماسة إزاء قضاياه الإنسانية الكبرى فراح يكتب الشعر ويترجم من غير توقف. ولعله وجد في الشعر أداة لمواجهة اليأس والعزلة بعدما أضحى شبه وحيد وربما شبه معزول عن الحياة العامة والحركات الشعرية الجديدة. ظل ميشال سليمان طوال حياته وفياً كل الوفاء للقضايا الكبيرة، قضايا الإنسان والمجتمع. وظلّ يصرّ على ضرورة الأمل من أجل تغيير العالم وجعله أشدّ عدالة ورحمة وأشدّ جمالاً. ولم يملّ يوماً ترجمة الشعراء الإنسانيين، شعراء البلدان السوفياتية سابقاً، شعراء أوروبا الشرقية الذين عرف الكثيرين منهم والتقى بهم. ولعلّ ترجمته قصائد نيرودا وألبرتي وسواهما هي من أجمل الترجمات حتى وإن لم تتم عن اللغة الأصل. أما شعره الملتزم والإنساني فترجم بدوره الى لغات عدة وخصوصاً في أوروبا الشرقية ونال له جوائز عالمية. ولم يغب ميشال سليمان عن الندوات الدولية والمؤتمرات انطلاقاً من انتمائه الى رابطة الكتاب الآفرو - آسيويين وإلى اتحاد الكتّاب العرب وكانت له إطلالات لافتة جداً في جرأتها وجسارتها. وكانت له أيضاً صداقات في الأوساط الشعرية والأدبية العالمية خوّلته أن يكون على بيّنة من "حداثات" العالم. أكثر من ثلاثين كتاباً بين التأليف والترجمة، بين الشعر والنثر، هي حصيلة إبداع ميشال سليمان طوال عمر لم تشغله سوى هموم الشعر والمعرفة والنضال النبيل والالتزام الإنساني. وكتبه تلك لا بدّ من العودة إليها كجزء من التراث الأدبي الحديث، بل كجزء من الذاكرة والوجدان اللبنانيين والعربيين.