مضى أكثر من أربعة قرون على اقتلاع ما يربو على اثنَيْ عشر مليونًا من سكّان إفريقيا، ونقْلهم مُصفَّدين بالأغلال وحبيسي أقفاصٍ خشبيّة إلى أصقاعٍ مجهولة وراء البحار، حيث جرى تحويلهم إلى رقيقٍ لا يَملكون من مصائرهم شيئًا. كانت تلك أكبر عمليّة في التاريخ يَنزع فيها الرجل الأبيض إنسانيّةَ بَشَرٍ ويهوي بهم إلى سويّة الجماد. وبتحويلهم إلى محْضِ آلاتٍ مُهمّتها مُضاعَفة الإنتاج الاقتصاديّ حتّى وقتنا الرّاهن، تتكشَّف حقائق مجهولة من خفايا ظاهرة العبوديّة في طَورها الحديث. كانت تجارةُ الرقيق الإفريقي مزدهرةً في الشرق ورائجةً، على الرّغم من أنّ المُجتمعات الشرقيّة مقيَّدة بربقة التخلُّف الحضاري والاقتصادي، فجرى ترحيل الكثير من سكّان شرق إفريقيا إلى سواحل البحر الهندي وبحر العرب. الحقيقة المُذهلة الثانية هي أنّ قبائل إفريقيّة عدّة انتهى بها المطاف في سهول السِّند في شبه القارّة الهنديّة، ومع تصرُّم الزمن لم تندثر سيَرُها أو تُمحى هويَّتُها؛ ففي مدينة كراتشيجنوبباكستان ثمّة مجتمع متكامل وقائم بنفسه يتشكَّل من أبناء إفريقيا السوداء بأجناسهم وألوانهم وثقافتهم المميَّزة، ويَشعر مَن يراهم أو يختلط بهم كأنّه قُذِف به في قلب القارّة الإفريقيّة. ففي بلدة لياري التي تُعَدّ الجزءَ القديم من مدينة كراتشي، يُبصر المرء الجماعات الإفريقيّة وهي تُمارس الطقوس والفنون نفسها التي تؤدّيها القبائل البدائيّة في أدغال إفريقيا. وهذه الجماعات التي يتميّز أفرادُها بالبشرة الداكنة والشعر المجعّد والأنف الأفطس، يُسمّون بالشيديّين أو زنج الباكستان. علاقات عشائرية وإقطاعية وتتضارَب آراءُ المؤرِّخين في تحديد تاريخ قدومهم إلى شبه القارّة الهنديّة، فثمّة مَن يرى أنّ هؤلاء ليسوا سوى نسلِ الأفارقة الذين جُلبوا من شرق إفريقيا للعمل في الفلاحة والمنازل في أواخر القرن التّاسع عشر، وآخرون يعدّونهم من بقايا الرحلات التجاريّة في القرنَيْن السادس عشر والسابع عشر. غير أنّهم، راهنًا، باتوا يعيشون في مجتمعٍ إقطاعي تَحكمه نواميسُ الشبكات الاجتماعيّة القديمة وأعرافُها، وفي مقدّمتها اعتبار ذوي البشرة الفاتحة المواطنين الأرفع مَرتبةً في سلّمِ الهَرَم الاجتماعي، لهذا السبب شَهِدَ الشيديّون طوال تاريخهم صنوفًا من الامتهان والتمييز العنصري النَّمطي، كان مَصدره المُجتمع ومؤسّسات الدولة ورموزها. وحريٌّ بنا الاعتراف بأنّ بقاء عناصر التهميش والاضْطهاد فاعلةً ومتفاعلةً تجاه الشيديّين منذ زمنٍ بعيد، جَعلهم يحتلّون قاعَ المجتمع، في بلدٍ يَخوض قَبل ذاك حربًا تاريخيّةً مُخفقة ضدّ الفقر والفساد. ففي بلدٍ مثل باكستان تحكمه علاقاتٌ عشائريّة وإقطاعيّة، برْهَنتِ الدولةُ عن عجزٍ مُستديم في خلْقِ مشروعاتٍ من شأنها إنجاز عمليّة اندماجٍ سَلِسٍ للشيديّين في المجتمع الباكستاني بدلًا من بقائهم طبقة منبوذة لا تَستسيغ شرائح اجتماعيّة متباينة فكرة قبولِها في النسيج الاجتماعي. ولذلك لم يَطرأ تحسُّنٌ على أوضاع الشيديّين، وبقوا كما كان عليه حالهم قَبل مئة عامٍ يَمتهنون الأعمال الشاقّة وأعمال السخرة تحت ضغط مُتطلّبات العيش. يَقطن السواد الأعظم من الشيديّين في الأزقّة الأفقر في جنوبكراتشي التي تُعَدّ مَرتعًا لتجارة المخّدرات والأسلحة الناريّة، وتَنعدم فيها أيُّ إمكانيّةٍ لنموٍّ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ وسياسيّ، ولذلك أَسهَمَ الفقر والأميّة في مضاعفة سوء حياتهم، وجَعَلَ المجتمعَ يَنظر إليهم بوصفهم جماعةً من الجَهلة والرّعاع. ويَتمركز الشيديّون في بلدة لياري التي تُحكم الجريمة المنظَّمة قبضَتَها عليها، وعناصرها هُم عبارة عن شبكة واسعة من الأشقياء والسياسيّين وأصحاب النفوذ يتبادلون المنافع والمكاسب؛ بحيث إنّ سطوتهم جَعلتْ حزب الشعب يصرِّح علانيّةً بعجْزِه عن استئصالها في مطلع القَرن الحادي والعشرين. يتوزَّع الشيديّون على مراكز سكّانيّة في السِّند، إلّا أنّ ثقلهم الرئيسي موجود في بلدة في لياري في مدينة كراتشي. ويَعتنق غالبيّتهم الإسلامَ مع مزيجٍ من موروثاتٍ ثقافيّة نابعة من تاريخهم الإفريقي. وعلى الرّغم من افتقادهم للتواصُل المباشر مع القارّة الإفريقيّة، إلّا أنّ الشيديّين لا يزالون يَحتفظون بسماتِ الحضارة الإفريقيّة. ففي مناسباتهم الثقافيّة المُتوارَثة يُمارسون على غرار نظرائهم الأفارقة قرْعَ الطبول العملاقة والآلات الإيقاعيّة الإفريقيّة الأخرى، ويَحرصون على الاحتفاء بالمهرجانات الإفريقيّة القديمة مثل مهرجان «شيدي ميلا» الذي يُثير حفيظةَ المجتمع والسلطة الباكستانيّة على حدّ سواء. فهذا المهرجان الذي يُقيمه الشيديّون بشكلٍ دَوريّ تُمارَس فيه طقوسٌ إفريقيّة قديمة تتضمَّن شعائر بدائيّة مثل الاحتفاء بالتماسيح، وأخرى صوفيّة تُبجِّل بعضَ الشُّفعاء المُقدَّسين، من بينهم «بير مانجو» الذي يَحرص الشيديّون على إحياء ذكرى رحيله سنويًّا. وجدير بالذكر أنّ الديانات الإفريقيّة غالبًا ما تَعقد صلةً وثيقة بين الزواحف والقدّيسين، ويقتفي الشيديّون في مُمارَسة هذه الطقوس ما سارَ عليه أسلافهم الأفارقة في القارّة الأمّ. ظاهرة تنزيلا قمبراني ويُواجه الشيديّون حملات تحريضٍ واسعة من قطاعاتٍ أساسيّة في المُجتمع الباكستاني، وتَصدر الانتقاداتُ العنصريّة في أحايين كثيرة من طبقاتٍ رفيعة تَحتلّ صدارة المؤسّسات الفكريّة والروحيّة. ولكنّ ما يَبعث على الحيرة هو تجاهُل النُّخب والمجتمع حقيقة أنّ الشيديّين كان لهم تأثيرُهم الكبير على السياسة والمُجتمع الباكستانيَّيْن. فأحدُ الرموز التي يُخلِّدها تاريخُ السِّند هو القائد العسكري حوش محمّد الشيدي، الذي نازَلَ الجيشَ البريطانيَّ في معركةٍ كبرى ومصيريّة في القرن التّاسع عشر ودَفَعَ حياتَه ثمنًا لتحرير السِّند. وتطول قائمةُ الشيديّين ممَّن كان لهم دَورُهم في تقدُّم المجتمع الباكستاني؛ فالشاعر نور ميم راشد الملقَّب بدانيش، يُعَدّ من الأدباء البارزين في الباكستان، وهو بلا مُنازع رائد الحداثة في الأدب المكتوب بلغة الأوردو، وهو نفسه الذي أَطلق على بلدة لياري اسم «هارلم كراتشي»، وكان مُحقًّا في ذلك، فقد أَنتجت هذه البلدة موسيقى الاحتجاج السياسي والاجتماعي، التي هي نسخة باكستانيّة عن «موسيقى الراب»، وكان لها شيوعٌ هائل في الاحتجاجات السياسيّة في العقود الثلاثة الأخيرة في باكستان، حيث عملَ حزبُ الشعب على توظيف «موسيقى الراب الشيديّة» في حملاته الانتخابيّة. كما أنّه في بلدٍ يتحوَّل فيه أبطالُ لعبة الكريكت إلى أيقوناتٍ قوميّة، قدَّمت جماعةُ الشيديّين واحدًا من أبرز لاعبي الكريكت في تاريخ باكستان، إذ يُعَدّ قاسم عمر ذو الأصول الإفريقيّة أبرز رياضيٍّ في منتصف الثمانينيّات من القَرن العشرين. والحقّ أنّ الشيديّين يَمتلكون تاريخًا سياسيًّا حافِلًا، فقد زار المهاتما غاندي مدينتَهم لياري في أثناء مقاومته السلميّة للاحتلال البريطاني، وبعد تقسيم الهند نشطتِ الحركةُ اليساريّة في أوساط سكّان لياري، إذ تحوَّلت المدينة إلى معقٍل قويٍّ لحزب الشعب بقيادة ذو الفقار علي بوتو. كما بَرهَن الحزبُ لاحقًا على تجذُّر قاعدته الجماهيريّة في لياري حين تمكَّنت بناظير بوتو من انتزاع أوّل مقعدٍ برلمانيّ في حياتها السياسيّة بعد فَوزها بمقعد بلدة لياري في العام 1987. لكنّ علاقة الشيديّين بحزب الشعب شَهدت تأرجُحًا بَعْدَ اضمحلال قوّة الحزب ونفوذه، وهو ما تأتّى عنه اندلاعُ احتجاجاتٍ جماهيريّة على غياب حُكم القانون والعدالة الاجتماعيّة في مناطقهم، وآتَتْ هذه الحركةُ المطلبيّة أكُلَها في العام 2018 حين تمكَّنت ناشطةٌ سياسيّةٌ شيديّة من انتزاع مقعدٍ برلمانيّ عن مدينة لياري من ضمن قوائم حزب الشعب. كانت تنزيلا قمبراني صوتًا مسموعًا لجماعة الشيديّين ومُنافِحةً جسورةً عن أفكار العدالة والمُساواة وحُكم القانون، وفَتَحَ صعودُها الباهر على المسرح السياسي كوّةَ أملٍ لتحقيق قدرٍ كبيرٍ من الوعي في شرائح الطبقة الوسطى تجاه الاعتراف بالتنوُّع الثقافي في باكستان ومبدأ السواسية أمام القانون. وقد كان ظهورها كالإعصار الذي شكَّل تهديدًا للكثير من القناعات الاجتماعيّة الموروثة، فهي كانت ترى أنّ الاضطهاد الاجتماعي الذي يتعرَّض له الشيديّون في معاشهم اليومي، إنّما هو عقوبة على شيء لا علاقة لهم به، فسواد البشرة ليس بالأمر الذي بمقدور الشيدي التخلُّص منه. غير أنّ المفاجأة كانت في انقلاب رموز حزب الشعب عليها، وفصْلها من الحزب وتنظيماته بدعوى أنّها تُشوِّه الصورة الجماهيريّة للحزب باحتضانه لنسلِ الزنج الذي لا يمتُّ بصلة لباكستان. ظهور قمبراني مثَّل قفزةً كبيرة في اتّجاه مُشارَكة الأقليّات في الحياة السياسيّة التي تتّسم بقدرٍ كبير من الطبقيّة في مُجتمعٍ يرزح تحت وطأة الحياة الإقطاعيّة، وربّما جَعَلَ للشيديّين أنفسهم صوتًا مسموعًا لدى النُّخب السياسيّة في إقليم السِّند، الأمر الذي يدفع إلى رفْع مستوى الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والصحيّة لمكوِّنٍ رئيس من الأمّة الباكستانيّة. *كاتب من الكويت * ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي